تفسير ابن عاشور
تفسير الآية رقم 42 من سورة مريم
إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42)
وقوله : إذ قال لأبيه الخ بدل اشتمال من ( إبراهيم ). و ( إذ ) اسم زمان مجرد عن الظرفية لأن ( إذ ) ظرف متصرف على التحقيق . والمعنى : اذكر إبراهيم زمان قوله لأبيه فإن ذلك الوقت أجدر أوقات إبراهيم بأن يذكر .
وأبو إبراهيم هو ( آزار ) تقدم ذكره في سورة الأنعام .
وافتتح إبراهيم خطابه أباه بندائه مع أن الحضرة مغنية عن النداء قصداً لإحضار سمعه وذهنه لتلقي ما سيلقيه إليه .
قال الجد الوزير رحمه الله فيما أملاه عليّ ذات ليلة من عام 1318 ه فقال :
علم إبراهيم أن في طبع أهل الجهالة تحقيرهم للصغير كيفما بلغ حاله في الحذق وبخاصة الآباء مع أبنائهم ، فتوجه إلى أبيه بخطابه بوصف الأبوة إيماء إلى أنه مخلص له النصيحة ، وألقى إليه حجّة فساد عبادته في صورة الاستفهام عن سبب عبادته وعمله المخطىء ، منبّهاً على خطئه عندما يتأمل في عمله ، فإنه إن سمع ذلك وحاول بيان سبب عبادة أصنامه لم يجد لنفسه مقالاً ففطِن بخطل رأيه وسفاهة حلمه ، فإنه لو عبد حيّاً مميزاً لكانت له شبهة ما . وابتدأ بالحجة الراجعة إلى الحِسّ إذ قال له : لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر فذلك حجة محسوسة ، ثم أتبعها بقوله : ولا يغني عنك شيئاً ، ثم انتقل إلى دفع ما يخالج عقل أبيه من النفور عن تلقي الإرشاد من ابنه بقوله : { يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطاً سوياً } [ مريم : 43 ] ، فلما قضى حق ذلك انتقل إلى تنبيهه على أن ما هو فيه أثر من وساوس الشيطان ، ثم ألقى إليه حجة لائقة بالمتصلبين في الضلال بقوله : { يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمان فتكون للشيطان وليا } [ مريم : 45 ] ، أي إن الله أبلغ إليك الوعيد على لساني ، فإن كنتَ لا تجزم بذلك فافرض وقوعه فإنّ أصنامك لم تتوعدك على أن تفارق عبادتها . وهذا كما في الشعر المنسوب إلى علي رضي الله عنه :
زعم المنجّم والطّبيب كلاهمالا تحشر الأجسام قلت : إليكماإن صحّ قولكما فلست بخاسرأو صح قولي فالخسار عليكماقال : وفي النداء بقوله : { يا أبت } أربع مرات تكريرٌ اقتضاه مقام استنزاله إلى قبول الموعظة لأنها مقام إطناب . ونَظَّرَ ذلك بتكرير لقمان قوله : { يا بني } [ لقمان : 13 16 ] ثلاث مرات ، قال : بخلاف قول نوح لابنه : { يا بني اركب معنا } [ هود : 42 ] مرة واحدة دون تكرير لأنّ ضيق المقام يقتضي الإيجاز وهذا من طرق الإعجاز» . انتهى كلامه بما يقارب لفظه .
وأقول : الوجه ما بني عليه من أن الاستفهام مستعمل في حقيقته ، كما أشار إليه صاحب «الكشاف» ، ومكنى به عن نفي العلّة المسؤول عنها بقوله : { لم تعبد ، فهو كناية عن التعجيز عن إبداء المسؤول عنه ، فهو من التورية في معنيين يحتملهما الاستفهام .
وأبت : أصله أبي ، حذفوا ياء المتكلم وعوضوا عنها تاء تعويضاً على غير قياس ، وهو خاص بلفظ الأب والأم في النداء خاصة ، ولعله صيغة باقية من العربية القديمة . ورأى سيبويه أن التاء تصير في الوقف هاء ، وخالفه الفراء فقال : ببقائها في الوقف . والتاء مكسورة في الغالب لأنها عوض عن الياء والياء بنت الكسرة ولما كسروها فتحوا الياء وبذلك قرأ الجمهور . وقرأ ابن عامر ، وأبو جعفر : ( يأبتَ ) بفتح التاء دون ألف بعدها ، بنَاء على أنهم يقولون ( يا أبتَا ) بألف بعد التاء لأن ياء المتكلم إذا نودي يجوز فتحها وإشباع فتحتها فقرأه على اعتبار حذف الألف تخفيفاً وبقاء الفتحة .