تفسير ابن عاشور
تفسير الآية رقم 41 من سورة مريم
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41) قد تقدم أن من أهم ما اشتملت عليه هذه السورة التنويه بالأنبياء والرسل السالفين . وإذ كان إبراهيم عليه السلام أبَا الأنبياء وأوّل من أعلن التوحيد إعلاناً باقياً ، لبنائه له هيكلَ التوحيد وهو الكعبة ، كان ذكر إبراهيم من أغراض السورة ، وذُكر عقب قصة عيسى لمناسبة وقوع الرد على المشركين في آخر القصة ابتداء من قوله تعالى : { فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم >إِذْ قَالَ لاَِبِيهِ ياأبت لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِى عَنكَ شَيْئاً } [ مريم : 37 ] إلى قوله : { إنا نحن نرث الأرض ومن عليها } [ مريم : 40 ]. ولما كان إبراهيم قد جاء بالحنيفية وخالفها العرب بالإشراك وهم ورثة إبراهيم كان لتقديم ذكره على البقية الموقع الجليل من البلاغة .
وفي ذلك تسلية للنبيء صلى الله عليه وسلم على ما لقي من مشركي قومه لمشابهة حالهم بحال قوم إبراهيم .
وقد جرى سَرد خبر إبراهيم عليه السلام على أسلوبِ سرد قصة مريم عليها السلام لما في كل من الأهمية كما تقدم .
وتقدم تفسير { واذكر في الكتاب } في أول قصة مريم ( 16 ).
والصديق بتشديد الدال صيغة مبالغة في الاتصاف ، مثل الملك الضّليل لقب امرىء القيس ، وقولهم : رجل مِسيّك : أي شحيح ، ومنه طعام حرّيف ، ويقال : دليل خِرّيت ، إذا كان ذا حذق بالطرق الخفية في المفاوز ، مشتقاً من الخَرت وهو ثقب الشيء كأنه يثقب المسدودات ببصره . وتقدم في قوله تعالى : { يوسف أيها الصديق } [ يوسف : 46 ]. وصف إبراهيم بالصدّيق لفرط صدقه في امتثال ما يكلفه الله تعالى لا يصده عن ذلك ما قد يكون عذراً للمكلف مثل مبادرته إلى محاولة ذَبح ولده حين أمره الله بذلك في وحي الرؤيا ، فالصدق هنا بمعنى بلوغ نهاية الصفة في الموصوف بها ، كما في قول تأبّط شرّاً :
إني لمهد من ثنائي فقاصدبه لابن عم الصّدّق شُمس بن مالكوتأكيد هذا الخبر بحرف التوكيد وبإقحام فعل الكون للاهتمام بتحقيقه زيادة في الثناء عليه .
وجملة { إنه كان صديقاً نبيا واقعة موقع التعليل للاهتمام بذكره في التلاوة ، وهذه الجملة معترضة بين المبدل منه والبدل ، فإن ( إذ ) اسم زمان وقع بدلاً من إبراهيم ، أي اذكر ذلك خصوصاً من أحوال إبراهيم فإنه أهمّ ما يذكر فيه لأنه مظهر صديقيته إذ خاطب أباه بذلك الإنكار .
والنبي : فعيل بمعنى مفعول ، من أنبأه بالخبر . والمراد هنا أنه منبّأ من جانب الله تعالى بالوحي . والأكثر أن يكون النبي مرسلاً للتبليغ ، وهو معنى شرعي ، فالنبي فيه حقيقة عرفية . وتقدم في سورة البقرة ( 246 ) عند قوله : { إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكاً } ، فدل ذلك على أن قوله لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر إنما كان عن وحي من الله ليبلغ قومه إبطال عبادة الأصنام .
وقرأ الجمهور نبيا بياء مشددة بتخفيف الهمزة ياء لثقلها ولمناسبة الكسرة .
وقرأه نافع وحده ( نبيئاً ) بهمزة آخره ، وبذلك تصير الفاصلة القرآنية على حرف الألف ، ومثل تلك الفاصلة كثير في فواصل القرآن .