تفسير ابن عاشور
تفسير الآية رقم 1 من سورة الفيل
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1)
استفهام تقريري وقد بيّنّا غير مرة أن الاستفهام التقريري كثيراً ما يكون على نفي المقرَّر بإثباته للثقة بأن المقرَّر لا يسعه إلا إثبات المنفي وانظر عند قوله تعالى : { ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم } في سورة البقرة ( 243 ) . والاستفهام التقريري هنا مجاز بعلاقة اللزوم وهو مجاز كثر استعماله في كلامهم فصار كالحقيقة لشهرته . وعليه فالتقرير مستعمل مجازاً في التكريم إشارة إلى أن ذلك كان إرهاصاً للنبيء فيكون من باب قوله : { لا أقسم بهذا البلد وأنت حل بهذا البلد } [ البلد : 1 ، 2 ] ، وفيه مع ذلك تعريض بكفران قريش نعمة عظيمة من نعم الله عليهم إذ لم يزالوا يعبدون غيره .
والخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم كما يقتضيه قوله : { ربك } . فمهيع هذه الآية شبيه بقوله تعالى : { ألم يجدك يتيماً فآوى } [ الضحى : 6 ] الآيات وقوله : { لا أقسم بهذا البلد وأنت حل بهذا البلد } [ البلد : 1 ، 2 ] على أحد الوجوه المتقدمة .
فالرؤية يجوز أن تكون مجازية مستعارة للعلم البالغ من اليقين حد الأمر المرئي لتواتر ما فعل الله بأصحاب الفيل بين أهل مكة وبقاء بعض آثار ذلك يشاهدونه . وقال أبو صالح : رأيت في بيت أم هاني بنتتِ أبي طالب نحواً من قفيزين من تلك الحجارة سُوداً مخططة بحمرة . وقال عتاب بن أسِيدْ : أدركت سائس الفيل وقائده أعميين مُقْعَدين يستطعمان الناس . وقالت عائشة : لقد رأيْتُ قائد الفيل وسائقه أعمَيين يستطعمان الناس . وفعل الرؤية معلق بالاستفهام .
ويجوز أن تكون الرؤية بصرية بالنسبة لمن تجاوز سنهُ نيفاً وخمسين سنة عند نزول الآية ممن شهد حادث الفيل غلاماً أو فتى مثل أبي قحافة وأبي طالب وأبي بن خلف .
و { كيف } للاستفهام سَدّ مسدّ مفعوليْ أو مفعول { تَر } ، أي لم تر جواب هذا الاستفهام ، كما تقول : علمتُ هل زيد قائم؟ وهو نصب على الحال من فاعل { تَر } . ويجوز أن يكون { كيف } مجرداً عن معنى الاستفهام مراداً منه مجرد الكيفية فيكون نصباً على المفعول به .
وإيثار { كيف } دون غيره من أسماء الاستفهام أو الموصول فلم يقل : ألم تر ما فعل ربك ، أو الذي فعل ربك ، للدلالة على حالة عجيبة يستحضرها من يعلم تفصيل القصة .
وأوثر لفظ { فعل ربك } دون غيره لأن مدلول هذا الفعل يعم أعمالاً كثيرة لا يدل عليها غيره .
وجيء في تعريف الله سبحانه بوصف ( رب ) مضافاً إلى ضمير النبي صلى الله عليه وسلم إيماء إلى أن المقصود من التذكير بهذه القصة تكريم النبي صلى الله عليه وسلم إرهاصاً لنبوءته إذ كان ذلك عام مولده .
وأصحاب الفيل : الحَبشة الذين جاءوا مكة غازين مضمِرين هدم الكعبة انتقاماً من العرب من أجل ما فعله أحد بني كنانة الذين كانوا أصحاب النسيء في أشهر الحج .
وكان خبر ذلك وسببه أن الحبشة قد ملكوا اليمن بعد واقعة الأخدود التي عَذَّب فيها الملكُ ذو نواس النصارى ، وصار أمير الحبشة على اليمن رجلاً يقال له : ( أبرهة ) وأن أبرهة بنى كنيسة عظيمة في صنعاء دعاها القَلِيس ( بفتح القاف وكسر اللام بعدما تحتية ساكنة ، وبعضهم يقولها بضم القاف وفتح اللام وسكون التحتية ) . وفي «القاموس» بضم القاف وتشديد اللام مفتوحة وسكون الياء . وكتبه السهيلي بنون بعد اللام ولم يضبطه وزعم أنه اسم مأخوذ من معاني القَلْس للارتفاع . ومنه القلنسوة واقتصر على ذلك ولم أعرف أصل هذا اللفظ فإما أن يكون اسم جنس للكنيسة ولعل لفظ كنيسة في العربية معرّب منه ، وإما أن يكون علماً وضعوه لهذه الكنيسة الخاصة وأراد أن يصرف حج العرب إليها دون الكعبة فروي أن رجلاً من بني فُقَيم من بني كنانة وكانوا أهل النسيء للعرب كما تقدم عند قوله تعالى : { إنما النسيء زيادة في الكفر } في سورة براءة ( 37 ) ، قَصد الكنانيُّ صنعاء حتى جاء القليس فأحدث فيها تحقيراً لها ليتسامَعَ العربُ بذلك فغضب أبرهة وأزمع غزو مكة ليهدم الكعبة وسار حتى نزل خارج مكة ليلاً بمكان يقال له المُغَمَّس ( كمعظم موضع قرب مكة في طريق الطائف ) أو ذو الغميس ( لم أر ضبطه ) وأرسل إلى عبد المطلب ليحذره من أن يحاربوه وجرى بينهما كلام ، وأمر عبد المطلب آله وجميع أهل مكة بالخروج منها إلى الجبال المحيطة بها خشية من معرة الجيش إذا دخلوا مكة . فلما أصبح هيّأ جَيْشه لدخول مكة وكان أبرهة راكباً فيلاً وجيشه معه فبينا هو يَتهيّأ لذلك إذ أصاب جنده داء عضال هو الجُدريّ الفتاك يتساقط منه الأنامل ، ورأوا قبل ذلك طيراً ترميهم بحجارة لا تصيب أحداً إلا هلك وهي طير من جند الله فهلك معظم الجيش وأدبر بعضهم ومرض ( أبرهة ) فقفل راجعاً إلى صنعاء مريضاً ، فهلك في صنعاء وكفى الله أهل مكة أمر عدوّهم . وكان ذلك في شهر محرم الموافق لشهر شباط ( فبراير ) سنة 570 بعد ميلاد عيسى عليه السلام ، وبعد هذا الحادث بخمسين يوماً ولد النبي على أصح الأخبار وفيها اختلاف كثير .
والتعريف في الفيل } للعهد ، وهو فيل أبرهة قائد الجيش كما قالوا للجيش الذي خرج مع عائشة أم المؤمنين أصحاب الجَمل يريدون الجمل الذي كانت عليه عائشة ، مع أن في الجيش جمالاً أخرى . وقد قيل : إن جيش أبرهة لم يكن فيه إلا فيل واحد ، وهو فيل أبرهة ، وكان اسمه محمود . وقيل : كان فيه فِيَلَة أخرى ، قيل ثمانية وقيل : اثنا عشر . وقال بعضٌ : ألف فيل . ووقع في رجز ينسب إلى عبد المطلب :
أنتَ منعتَ الحُبْشَ والأفْيالا ... فيكون التعريف تعريف الجنس ويكون العهد مستفاداً من الإِضافة .
والفيل : حيوان عظيم من ذوات الأربع ذواتتِ الخف ، من حيوان البلاد الحارة ذات الأنهار من الهند والصين والحبشة والسودان ، ولا يوجد في غير ذلك إلا مجلوباً ، وهو ذكي قابل للتأنس والتربية ، ضخم الجثة أضخم من البعير ، وأعلى منه بقليل وأكثر لحماً وأكبر بطناً .
وخف رجله يشبه خف البعير وعنقه قصير جداً له خرطوم طويل هو أنفه يتناول به طعامه وينتشق به الماء فيفرغه في فيه ويدافع به عن نفسه يختطف به ويلويه على ما يريد أذاه من الحيوان ، ويلقيه على الأرض ويدوسه بقوائمه . وفي عينيه خزر وأذناه كبيرتان مسترخيتان ، وذَنبه قصير أقصر من ذنب البعير وقوائمه غليظة . ومناسمه كمناسم البعير وللذكر منه نابان طويلان بارزان من فمه يتخِذ الناس منها العاجَ . وجلده أجرد مثل جلد البقر ، أصهب اللون قاتم كلون الفار ويكون منه الأبيض الجلد . وهو مركوبٌ وحاملُ أثقال وأهل الهند والصين يجعلون الفيل كالحصن في الحرب يجعلون محفة على ظهره تسع ستة جنود . ولم يكن الفيل معروفاً عند العرب فلذلك قلّ أن يُذكر في كلامهم وأول فيل دخل بلاد العرب هو الفيل المذكور في هذه السورة .
وقد ذكرت أشعار لهم في ذكر هذه الحادثة في السيرة . ولكن العرب كانوا يسمعون أخبار الفيل ويتخيلونه عظيماً قوياً ، قال لبيد :
ومقاممٍ ضيِّق فرَّجْتُه ... ببياننٍ ولسان وجَدل
لو يقومُ الفيلُ أوفَيَّالُه ... زل عن مثل مقامي ورحل
وقال كَعب بن زهير في قصيدته :
لقَدْ أقومُ مقاماً لو يقوم به ... أرى وأسمع ما لو يسمع الفيل
لظلَّ يَرْعد إلا أنْ يكون له ... من الرسول بإذن الله تنويل
وكنت رأيْتُ أنّ . . . . قال إن أمه أرته أو حدثته أنها رأت روث الفيل بمكة حول الكعبة ولعلهم تركوا إزالته ليبقى تذكرة .
وعن عائشة وعتاب بن أسيد : رأيت قائد الفيل وسائسه بمكة أعميين مقعدين يستطعمان الناس .
والمعنى : ألم تعلم الحالة العجيبة التي فعلها الله بأصحاب الفيل ، فهذا تقرير على إجمال يفسره ما بعده .