الوسيط للطنطاوي
تفسير الآية رقم 2 من سورة القدر
ويصح أن يكون المراد بالقدر هنا: التقدير، لأن الله- تعالى- يقدر فيها ما يشاء تقديره لعباده، إلا أن القول الأول أظهر، لأن قوله- سبحانه- بعد ذلك: وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ يفيد التعظيم والتفخيم.
أى: إنا ابتدأنا بقدرتنا وحكمتنا، إنزال هذا القرآن العظيم، على رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم في ليلة القدر، التي لها ما لها عندنا من قدر وشرف وعظم.. لأن للطاعات فيها قدرا كبيرا، وثوابا جزيلا.
وليلة القدر هذه هي الليلة التي قال الله- تعالى- في شأنها في سورة الدخان: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ. فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ. أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ. رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ.
وهذه الليلة هي من ليالي شهر رمضان، بدليل قوله- تعالى-: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ.
قال بعض العلماء: ومن تسديد ترتيب المصحف، أن سورة القدر وضعت عقب سورة العلق، مع أنها أقل عدد آيات من سورة البينة وسور بعدها، وكأن ذلك إيماء إلى أن الضمير في أَنْزَلْناهُ يعود إلى القرآن، الذي ابتدئ نزوله بسورة العلق. .
وقال صاحب الكشاف: عظم- سبحانه- القرآن من ثلاثة أوجه: أحدها: أن أسند إنزاله اليه، وجعله مختصا به دون غيره. والثاني: أنه جاء بضميره دون اسمه الظاهر، شهادة له بالنباهة والاستغناء عن التنبيه عليه، والثالث: الرفع من مقدار الوقت الذي أنزل فيه.
روى أنه أنزل جملة واحدة في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا، وأملاه جبريل على السفرة ثم كان ينزل به على رسول الله صلى الله عليه وسلم نجوما في ثلاث وعشرين سنة.
وعن الشعبي: المعنى: أنا ابتدأنا إنزاله في ليلة القدر ... .
وقوله- تعالى-: وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ تنويه آخر بشرف هذه الليلة، وتفخيم لشأنها، حتى لكأن عظمتها أكبر من أن تحيط بها الكلمات والألفاظ.
أى: وما الذي يدريك بمقدار عظمتها وعلو قدرها، إن الذي يعلم مقدار شرفها هو الله - تعالى- علام الغيوب.