الوسيط للطنطاوي
تفسير الآية رقم 78 من سورة التوبة
ثم ختم- سبحانه- هذه الآيات الكريمة، بتوبيخهم على إصرارهم على المعاصي، مع علمهم بأنه- عز وجل- عليم رقيب عليهم، ومطلع على أحوالهم فقال: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ، وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ.
أى: ألم يعلم هؤلاء المنافقون أن الله- تعالى- يعلم ما يسرونه في أنفسهم من نفاق، وما يتناجون به فيما بينهم من أقوال فاسدة، وأنه- سبحانه- لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء؟ بلى إنهم ليعلمون ذلك علم اليقين، ولكنهم لاستيلاء الهوى والشيطان عليهم، لم ينتفعوا بعلمهم.
فالاستفهام في قوله: أَلَمْ يَعْلَمُوا.. للتوبيخ والتهديد والتقرير، وتنبيهم إلى أن الله عليم بأحوالهم، وسيجازيهم عليها.
هذا، ومن الأحكام والآداب التي أخذها العلماء من هذه الآيات ما يأتى:
1- وجوب الوفاء بالعهود، فإن نقض العهود، وخلف الوعد، والكذب كل ذلك يورث النفاق، فيجب على المسلم أن يبالغ في الاحتراز عنه، فإذا عاهد الله في أمر فليجتهد في الوفاء به.
ومذهب الحسن البصري- رحمه الله- أنه يوجب النفاق لا محالة، وتمسك فيه بهذه الآية وبقوله صلى الله عليه وسلم: «ثلاث من كن فيه فهو منافق، وإن صلى وصام وزعم أنه مؤمن: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان» .
2- أن للإمام أن يمتنع عن قبول الصدقة من صاحبها إذا رأى المصلحة في ذلك، اقتداء بما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم مع ثعلبة، فإنه لم يقبل منه الصدقة بعد أن جاء بها.
قال الإمام الرازي: فإن قيل إن الله- تعالى- أمره- أى ثعلبة- بإخراج الصدقة فكيف يجوز من الرسول صلى الله عليه وسلم أن لا يقبلها منه؟
قلنا: لا يبعد أن يقال أنه- تعالى- منع رسوله عن قبول الصدقة منه على سبيل الإهانة له، ليعتبر غيره به، فلا يمتنع عن أداء الصدقات.
ولا يبعد- أيضا- أنه إنما أتى بها على وجه الرياء لا على وجه الإخلاص وأعلم الله رسوله بذلك، فلم يقبل تلك الصدقة لهذا السبب.
ويحتمل- أيضا- أنه- تعالى- لما قال: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وكان هذا المقصود غير حاصل في ثعلبة مع نفاقة، فلهذا السبب امتنع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أخذ تلك الصدقة .
3- أن النفس البشرية ضعيفة شحيحة- إلا من عصم الله.
وأن مما يعين الإنسان على التغلب على هذا الضعف والشح، أن يوطن نفسه على طاعة الله، وأن يجبرها إجبارا على مخالفة الهوى والشيطان، وأن يؤثر ما عند الله على كل شيء من حطام الدنيا ...
أما إذا ترك لنفسه أن تسير على هواها، فإنها ستورده المهالك، التي لن ينفع معها الندم، وستجعله أسير شهواته وأطماعه ونفاقه إلى أن يلقى الله، وصدق- سبحانه- حيث يقول:
فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ، بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ.
ثم حكى- سبحانه- موقف هؤلاء المنافقين من المؤمنين الصادقين الذين كانوا يبذلون أموالهم في سبيل الله، فقال- سبحانه: