الوسيط للطنطاوي
تفسير الآية رقم 122 من سورة التوبة
قال الجمل: وسبب نزول هذه الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بالغ في الكشف عن عيوب المنافقين، وفضحهم في تخلفهم عن غزوة تبوك. قال المسلمون: والله لا نتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا عن سرية بعثها، فلما قدم صلى الله عليه وسلم المدينة من تبوك، وبعث السرايا، أراد المسلمون أن ينفروا جميعا للغزو وأن يتركوا النبي صلى الله عليه وسلم وحده فنزلت هذه الآية .
والمعنى، وما كان من شأن المؤمنين، أن ينفروا جميعا في كل سرية تخرج للجهاد، ويتركوا الرسول صلى الله عليه وسلم وحده بالمدينة، وإنما يجب عليهم النفير العام إذا ما دعاهم صلى الله عليه وسلم إلى ذلك.
وقوله: فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ ... معطوف على كلام محذوف، ولولا حرف تحضيض بمعنى هلا.
أى: فحين لم يكن هناك موجب لنفير الكافة، فهلا نفر من كل فرقة من المؤمنين طائفة للجهاد، وتبقى طائفة أخرى منهم «ليتفقهوا في الدين» أى: ليتعلموا أحكامه من رسولهم صلى الله عليه وسلم «ولينذروا قومهم» أى: وليعلموهم ويخبروهم بما أمروا به أو نهوا عنه «إذا رجعوا إليهم» من الغزو «لعلهم يحذرون» أى: لعل هؤلاء الراجعين إليهم من الغزو يحذرون ما نهوا عنه.
أى: أن على المسلمين في حالة عدم النفير العام، أن يقسموا أنفسهم إلى قسمين.
قسم يبقى مع الرسول صلى الله عليه وسلم ليتفقه في دينه، وقسم آخر يخرج للجهاد في سبيل الله، فإذا ما عاد المجاهدون، فعلى الباقين مع الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبلغوا العائدين ما حفظوه عن الرسول صلى الله عليه وسلم من أحكام.
وبذلك يجمع المسلمون بين المصلحتين: مصلحة الدفاع عن الدين بالحجة والبرهان، ومصلحة الدفاع عنه بالسيف والسنان.
وعلى هذا التفسير الذي سار عليه جمهور العلماء يكون الضمير في قوله «ليتفقهوا ولينذروا» يعود إلى الطائفة الباقية مع الرسول صلى الله عليه وسلم أما الضمير في قوله «لعلهم يحذرون» فيعود على الطائفة التي خرجت للجهاد ثم عادت.
ومنهم من يرى أن الضمير في قوله «ليتفقهوا، ولينذروا» يعود على الطائفة التي خرجت للجهاد.
وقد رجح هذا الاتجاه الإمام ابن جرير فقال: وأما قوله «ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم» فإن أولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: لتتفقه الطائفة النافرة بما تعاين من نصر الله لأهل دينه ولأصحاب رسوله على أهل عداوته والكفر به، فيفقه بذلك من معاينته حقيقة علم أمر الإسلام، وظهوره على الأديان، من لم يكن فقهه، «ولينذروا قومهم» فيحذروهم أن ينزل بهم من بأس الله، مثل الذي نزل بمن شاهدوا، ممن ظفر بهم المسلمون من أهل الشرك، إذا هم رجعوا إليهم من غزوهم «لعلهم يحذرون» أى:
لعل قومهم إذا هم حذروهم ما عاينوا من ذلك، يحذرون فيؤمنون بالله ورسوله، حذرا من أن ينزل بهم ما نزل بالذين أخبروا خبرهم ... » .
وقد علق صاحب المنار على رأى ابن جرير هذا بقوله: وهذا تأويل متكلف ينبو عنه النظم الكريم، فإن اعتبار طائفة السرية بما قد يحصل لها من النصر- وهو غير مضمون ولا مطرد- لا يسمى تفقها في الدين، وإن كان يدخل في عموم معنى الفقه، فإن التفقه هو التعلم الذي يكون بالتكلف والتدرج، والمتبادر من الدين علمه، ولا يصح هذا المعنى في ذلك العهد إلا في الذين يبقون مع النبي صلى الله عليه وسلم فيزدادون في كل يوم علما وفقها بنزول القرآن ... » .
هذا، ومن الأحكام التي أخذها العلماء من هذه الآية: وجوب طلب العلم، والتفقه في دين الله وتعليم الناس إياه.
قال القرطبي: هذه الآية أصل في وجوب طلب العلم لأن المعنى: وما كان المؤمنون لينفروا كافة والنبي صلى الله عليه وسلم مقيم لا ينفر فيتركوه وحده «فلولا نفر» بعد ما علموا أن النفير لا يسع جميعهم «من كل فرقة منهم طائفة» وتبقى بقيتها مع النبي صلى الله عليه وسلم ليتحملوا عنه الدين ويتفقهوا، فإذا رجع النافرون إليهم أخبروهم بما سمعوه وعلموه، وفي هذا إيجاب التفقه، في الكتاب والسنة، وأنه على الكفاية دون الأعيان..» .
ثم ختمت السورة الكريمة حديثها عن الجهاد في سبيل الله، بدعوة المؤمنين إلى قتال أعدائهم بشدة وغلظة فقال- تعالى-: