الوسيط للطنطاوي
تفسير الآية رقم 1 من سورة المزمل
بسم الله الرّحمن الرّحيم
تفسير سورة المزمل
مقدمة وتمهيد
1- سورة «المزمل» هي السورة الثالثة والسبعون في ترتيب المصحف، أما ترتيبها في النزول على النبي صلى الله عليه وسلم فهي السورة الثالثة أو الرابعة، إذ يرى بعضهم أنه لم يسبقها في النزول سوى سورتي العلق والمدثر، بينما يرى آخرون أنه لم يسبقها سوى سور العلق، ونون، والمدثر.
وعدد آياتها عشرون آية عند الكوفيين، وتسع عشرة آية عند البصريين وثماني عشرة آية عند الحجازيين.
2- وجمهور العلماء على أن سورة «المزمل» من السور المكية الخالصة، فابن كثير- مثلا- عند تفسيره لها قال: تفسير سورة «المزمل» ، وهي مكية.
وحكى بعضهم أنها مكية سوى آيتين، فقد قال القرطبي: مكية كلها في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر، وقال ابن عباس وقتادة: هي مكية إلا آيتين منها، وهما قوله- تعالى-: وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا. وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ....
وقال الثعلبي: هي مكية إلا الآية الاخيرة منها وهي قوله- تعالى-: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ.... فإنها نزلت بالمدينة .
وقال الشيخ ابن عاشور ما ملخصه: وقال في الإتقان: إن استثناء قوله- تعالى-:
إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ ... إلى آخر السورة، يرده ما أخرجه الحاكم عن عائشة أنها قالت: نزلت هذه الآية بعد نزول صدر السورة بسنة ...
ثم قال الشيخ ابن عاشور: وهذا يعنى أن السورة كلها مكية، والروايات تظاهرت على أن هذه الآية قد نزلت منفصلة عما قبلها، بمدة مختلف في قدرها، فعن عائشة أنها سنة ... ومن قال بأن هذه الآية مدنية، يكون نزولها بعد نزول ما قبلها بسنين ...
والظاهر أن هذه الآية مدنية، لقوله- تعالى-: ... وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ومن المعروف أن القتال لم يفرض إلا في المدينة- إن لم يكن ذلك إنباء بمغيب على وجه المعجزة .
3- والسورة الكريمة: زاخرة بالحديث الذي يدخل التسلية والصبر على قلب النبي صلى الله عليه وسلم، ويعلى من شأن القرآن الكريم، ويرشد المؤمنين إلى ما يسعدهم ويصلح بالهم، ويهدد الكافرين بسوء المصير إذا ما استمروا في طغيانهم، ويذكّر الناس بأهوال يوم القيامة ...
ويسوق لهم ألوانا من يسر شريعته ورأفته- عز وجل- بعباده، وإثابتهم بأجزل الثواب على أعمالهم الصالحة.
وقد ذكر المفسرون عند تفسيرهم لهذه السورة الكريمة روايات منها ما رواه البزار والطبراني في الأوسط، وأبو نعيم في الدلائل عن جابر- رضى الله عنه- قال: اجتمعت قريش في دار الندوة فقالوا: سموا هذا الرجل اسما تصدوا الناس عنه فقالوا: كاهن. قالوا: ليس بكاهن. قالوا: مجنون. قالوا: ليس بمجنون. قالوا: ساحر. قالوا: ليس بساحر ...
فتفرق المشركون على ذلك. فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فتزمل في ثيابه وتدثر فيها. فأتاه جبريل فقرأ عليه: يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ....
وقيل: إنه صلى الله عليه وسلم كان نائما بالليل متزملا في قطيفة ... فجاءه جبريل بقوله- تعالى- يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا....
وقيل: إن سبب نزول هذه الآيات ما رواه الشيخان وغيرهما من حديث جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: جاورت بحراء، فلما قضيت جواري، هبطت، فنوديت فنظرت عن يميني فلم أر شيئا، ونظرت عن شمالي فلم أر شيئا ... فرفعت رأسى فإذا الذي جاءني بحراء، جالس على كرسي بين السماء والأرض ... فرجعت فقلت: دثروني دثروني، وفي رواية: فجئت أهلى فقلت: زملوني زملوني، فأنزل الله- تعالى-: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ... .
وجمهور العلماء يقولون: وعلى أثرها نزلت: يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ....
والْمُزَّمِّلُ: اسم فاعل من تزمل فلان بثيابه، إذا تلفف فيها، وأصله المتزمل، فأدغمت التاء في الزاى والميم.
وافتتح الكلام بالنداء للتنبيه على أهمية ما يلقى على المخاطب من أوامر أو نواه.
وفي ندائه صلى الله عليه وسلم بلفظ «المزمل» تلطف معه، وإيناس لنفسه، وتحبب إليه، حتى يزداد نشاطا، وهو يبلغ رسالة ربه.
والمعنى: يا أيها المتزمل بثيابه، المتلفف فيها، رهبة مما رآه من عبدنا جبريل. أو هما وغما مما سمعه من المشركين، من وصفهم له بصفات هو برىء منها.