الوسيط للطنطاوي
تفسير الآية رقم 58 من سورة الأعراف
وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً.
أصل النكد: العسر القليل الذي لا يخرج إلا بعناء ومشقة. يقال: نكد عيشه ينكد، اشتد وعسر. ونكدت البئر: قل ماؤها، ومنه: رجل نكد، ونكد وأنكد، شؤم عسر. وهم أنكاد ومناكيد.
وقال في اللسان: والنكد: قلة العطاء، قال الشاعر:
لا تنجز الوعد إن وعدت وإن ... أعطيت، أعطيت تافها نكدا
أى: عطاء قليلا لا جدوى منه.
والمعنى: أن الأرض الكريمة التربة يخرج نباتها وافيا حسنا غزير النفع بمشيئة الله وتيسيره، والذي خبث من الأرض كالسبخة منها لا يخرج نباته إلا قليلا عديم الفائدة.
فالأول: مثل ضربه الله للمؤمن يقول: هو طيب وعمله طيب.
والثاني: مثل للكافر، يقول: هو خبيث وعمله خبيث، وفيهما بيان أن القرآن يثمر في القلوب التي تشبه الأرض الطيبة التربة، ولا يثمر في القلوب التي تشبه الأرض الرديئة السبخة.
ونكدا منصوب على أنه حال أو على أنه نعت لمصدر محذوف والتقدير: والذي خبث لا يخرج إلا خروجا نكدا.
قال صاحب الكشاف: «وهذا مثل لمن ينجح فيه الوعظ والتذكير من المكلفين، ولمن لا يؤثر فيه شيء من ذلك. وعن مجاهد: آدم وذريته منهم خبيث وطيب. وعن قتادة: المؤمن سمع كتاب الله فوعاه بعقله وانتفع به، كالأرض الطيبة أصابها الغيث فأنبتت. والكافر بخلاف ذلك. وهذا التمثيل واقع على أثر ذكر المطر. وإنزاله بالبلد الميت، وإخراج الثمرات به على طريق الاستطراد» .
وقريب من معنى الآية الكريمة ما رواه الشيخان عن أبى موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا، فكانت منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به» .
وقوله: كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ أصل التصريف: تبديل حال بحال ومنه تصريف الرياح. والآيات: الدلائل الدالة على قدرة الله.
أى: مثل ذلك التصريف البديع والتنويع الحكيم نصرف الآيات الدالة على علمنا وحكمتنا ورحمتنا بالإتيان بها على أنواع جلية واضحة لقوم يشكرون نعمنا، باستعمالها فيما خلقت له، فيستحقون مزيدنا منها وإثابتنا عليها.
وعبر هنا بالشكر لأن هذه الآية موضوعها الاهتداء بالعلم والعمل والإرشاد، بينما عبر في الآية السابقة عليها بالتذكر لأن موضوعها يتعلق بالاعتبار والاستدلال على قدرة الله- تعالى- في إحياء الموتى.
وإلى هنا تكون السورة الكريمة قد حدثتنا- من بين ما حدثتنا- عن عظمة القرآن الكريم وعن وجوب اتباعه، وعن قصة آدم وما فيها من عبر وعظات، وعما أحله الله وحرمه، وعما يدور بين أهل النار من مجادلات واتهامات، وعن العاقبة الطيبة التي أعدها الله للصالحين من عباده، وعن المحاورات التي تدور بينهم وبين أهل النار، ثم عن مظاهر قدرة الله، وأدلة وحدانيته.
وبعد كل ذلك تبدأ السورة جولة جديدة مع الأمم الخالية، والقرى المهلكة التي جاء ذكرها في مطلعها.
وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ.
فتحدثنا السورة الكريمة عن مصارع قوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح، وقوم لوط، وقوم شعيب، ثم حديثا مستفيضا عن قصة موسى مع فرعون ومع بنى إسرائيل.
وقد تكلم الإمام الرازي عن فوائد مجيء قصص هؤلاء الأنبياء مع أقوامهم في هذه السورة بعد أن تحدثت عن أدلة توحيده وربوبيته- سبحانه- فقال: اعلم أنه- تعالى- لما ذكر في تقرير المبدأ والمعاد دلائل ظاهرة، وبينات قاهرة، وبراهين باهرة أتبعها بذكر قصص الأنبياء وفيه فوائد:
أحدها: التنبيه على أن إعراض الناس عن قبول هذه الدلائل والبينات. ليس من خواص قوم النبي صلى الله عليه وسلم بل هذه العادة المذمومة كانت حاصلة في جميع الأمم السالفة، والمصيبة إذا عمت خفت، فكان ذكر قصصهم، وحكاية إصرارهم وعنادهم، يفيد تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وتخفيف ذلك على قلبه.
ثانيها: أنه- تعالى- يحكى في هذه القصص أن عاقبة أمر أولئك المنكرين كان إلى اللعن في الدنيا، والخسارة في الآخرة، وعاقبة أمر المحقين إلى الدولة في الدنيا، والسعادة في الآخرة، وذلك يقوى قلوب المحقين، ويكسر قلوب المبطلين.
وثالثها: التنبيه على أنه- تعالى- وإن كان يمهل هؤلاء المبطلين، ولكنه لا يمهلهم، بل ينتقم منهم على أكمل الوجوه.
ورابعها: بيان أن هذه القصص دالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم لأنه كان أميّا. وما طالع كتابا ولا تتلمذ على أستاذ. فإذا ذكر هذه القصص على هذا الوجه من غير تحريف ولا خطأ دل ذلك على أنه إنما عرفها بالوحي من الله- تعالى-» .
والآن فلنستمع بتدبر واعتبار إلى السورة الكريمة وهي تحدثنا عن قصة نوح مع قومه فتقول: