الوسيط للطنطاوي
تفسير الآية رقم 44 من سورة القلم
ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة ، بالتهديد الشديد للكافرين ، وببيان جانب من تصرفه الحكيم معهم ، وبتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم عما أصابه منهم ، ويأمره بالصبر على أذاهم ، وعلى أحقادهم التى تنبئ عنها نظراتهم المسمومة إليه ، فقال - تعالى - :
( فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ . . . ) .
الفعل : ( ذرنى ) من الأفعال التى يأتى منها الأمر بالمضارع ، ولم يسمع لها ماض ، وهو بمعنى أترك . يقال : ذَرْهُ يفعل كذا ، أى : اتركه . ومنه قوله - تعالى - ( ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأمل فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ) والمراد بالحديث ( بهذا الحديث . . . ) ما أوحاه - تعالى - إلى نبيه - صلى الله عليه وسلم من قرآن كريم ، ومن توجيهات حكيمة ، لكى يبلغها للناس .
والاستدراج : استنزال الشئ من درجة إلى أخرى ، والانتقال به من حالة إلى أخرى ، والسين والتاء فيه للطلب والمراد به هنا : التمهل فى إنزال العقوبة .
والإملاء : الإِمداد فى الزمن ، والإمهال والتأخير ، مأخوذ من الملاوة والملوة ، وهى الطائفة الطويلة من الزمن . والملوان : الليل : والنهار ، والمراد به هنا : إمدادهم بالكثر من النعم .
يقال : أملى فلان لبعيره ، إذا أرخى له فى الزمام ، ووسع له فى القيد ، ليتسع المرعى .
والكيد كالمكر ، وهو التدبير الذى يقصد به غير ظاهره ، بحيث ينخدع الممكور به ، فلا يفطن لما يراد به ، حتى يقع عليه ما يسوؤه .
وإضافة الكيد إليه - تعالى - يحمل على المعنى اللائق به كإبطال مكر أعدائه ، وكإمدادهم بالنعم . ثم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر .
والمقصود بهاتين الآيتين الكريمتين : تسلية النبى صلى الله عليه وسلم عما أصابه من أعدائه .
والمعنى : إذا كانت أحوال هؤلاء المشركين ، كما ذكرت لك - أيها الرسول الكريم - فكِلْ أمرهم إلىَّ ، واترك أمر هؤلاء الذين يكذبونك فيما جئتهم به من عندنا إلى ربك ، ولا تشغل بالك بهم . فإنى سأقربهم قليلا قليلا إلى ما يهلكهم ويضاعف عقابهم ، بأن أسوق لهم النعم ، حتى يفاجئهم الهلاك من حيث لا يعلمون أن صنعنا هذا معهم هو لون من الاستدراج ، ثم إنى أمد لهم فى أسباب الحياة الرغدة ، ليزدادوا إثما ، ثم آخذهم أخذ عزيز مقتدر ، وهذا لون من ألوان كيدى الشديد القوى ، الذى لا يفطن إليه أمثال هؤلاء الجاهلين الأغبياء . .
وشبيه بهاتين الآيتين قوله - تعالى - : ( فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حتى إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أوتوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ . فَقُطِعَ دَابِرُ القوم الذين ظَلَمُواْ والحمد للَّهِ رَبِّ العالمين ) وفى الصحيحين عن أبى موسى الأشعرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله ليملى للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته " .
وقال الحسن البصرى : كم من مستدرج بالإِحسان ، وكم من مفتون بالثناء عليه ، وكم من مغرور بالستر عليه .
قال الآلوسى : وقوله : ( سَنَسْتَدْرِجُهُمْ . . . ) استئناف مسوق لبيان كيفية التعذيب المستفاد من الكلام السابق إجمالا .
وقوله : ( مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ ) أنه استدراج ، بل يزعمون أن ذلك إيثار لهم ، وتفضل على المؤمنين مع أنه سبب هلاكهم .