الوسيط للطنطاوي
تفسير الآية رقم 10 من سورة المجادلة
والمراد بالنجوى في قوله- تعالى- بعد ذلك: إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا..: نجوى المنافقين فيما بينهم، وهي التي عبر عنها- سبحانه- قبل ذلك بقوله:
وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ.
فأل في قوله- تعالى-: النَّجْوى للعهد، أى: إنما النجوى المعهودة التي كان يتناجى المنافقون بها فيما بينهم، كائنة من الشيطان لا من غيره، لأنه هو الذي حرضهم وأغراهم، بأن يتساروا بالإثم والعدوان.
وقوله: لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا قرأ الجمهور: لِيَحْزُنَ- بفتح الياء وضم الزاى- مضارع حزن، فيكون الَّذِينَ آمَنُوا فاعل، والحزن: الهم والغم.
أى: زين الشيطان للمنافقين هذه النجوى السيئة، لكي يحزن المؤمنون ويغتموا، بسبب ظنهم أن من وراء هذه النجوى أخبارا سيئة تتعلق بهم أو بذوبهم.
وقرأ نافع لِيَحْزُنَ- بضم الياء وكسر الزاى- فيكون الَّذِينَ آمَنُوا مفعولا.
أى: فعل الشيطان ما فعل مع المنافقين، لكي يدخل الحزن والغم على المؤمنين.
وأسند- سبحانه- النجوى إلى الشيطان، باعتبار أنه هو الذي يوسوس بها، ويزينها في قلوب هؤلاء المنافقين وأشباههم.
وجملة: وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ معترضة لتثبيت المؤمنين، وتسليتهم عما أصابهم من المنافقين.
واسم ليس: الشيطان أو التناجي، والاستثناء مفرغ من أهم الأحوال، و «شيئا» منصوب على المفعول المطلق.
أى: لا تحزنوا- أيها المؤمنون- لمسالك المنافقين معكم، ولا تخافوا من تناجيهم فيما بينهم، فإنها نجوى زينها لهم الشيطان، واعلموا أن كيد الشيطان لن يضركم شيئا من الضرر في حال من الأحوال إلا في حال إرادة الله- تعالى- ومشيئته.
وما دام الأمر كما بينت لكم، فاجعلوا توكلكم- أيها المؤمنون- على الله- تعالى- وحده، ولا تبالوا بالمنافقين، ولا بتناجيهم، ولا بما يسوله الشيطان لهم من قبائح، فإن كل شيء بقضاء الله وقدره.
قال الآلوسى ما ملخصه: وحاصل هذا الكلام أن ما يتناجى المنافقون به مما يحزن المؤمنين. إن وقع فهو إرادة الله- تعالى- ومشيئته، ولا دخل للمنافقين فيه، وما دام الأمر كذلك، فلا يكترث المؤمنون بتناجيهم، وليتوكلوا على الله- عز وجل- ولا يخافوا من تناجيهم.
ثم إن التناجي بين المؤمنين قد يكون منهيا عنه، فقد أخرج الشيخان وغيرهما عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا كنتم ثلاثة، فلا يتناجى اثنان دون الآخر، حتى تختلطوا بالناس من أجل أن ذلك يحزنه» .
ومثل التناجي في ذلك، أن يتكلم اثنان بحضور ثالث بلغة لا يفهمها الثالث، إن كان يحزنه ذلك .
وروى الإمام مسلم عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الثالث إلا بإذنه، فإن ذلك يحزنه» .
والخلاصة أن تعاليم الإسلام، تنهى عن التناجي في الحالات التي توقع الريبة في القلوب، وتزعزع الثقة بين الأفراد والجماعات.
وهذا النهى لون من الأدب الحكيم الذي يحفظ للمؤمنين مودتهم ومحبتهم ويبعد عن نفوسهم الشكوك والريب، ويطرد عن قلوبهم نزغات الشيطان الذي يجرى من ابن آدم مجرى الدم.