الوسيط للطنطاوي
تفسير الآية رقم 6 من سورة الحجرات
ذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآيات روايات منها ما روى عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد بعث الوليد بن عقبة إلى بنى المصطلق ليأخذ منهم الصدقات، وإنهم لما أتاهم الخبر فرحوا وخرجوا يتلقون رسول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
فرجع الوليد- ظنا منه أنهم يريدون قتله- فقال يا رسول الله: إن بنى المصطلق قد منعوا الصدقة، فغضب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من ذلك غضبا شديدا، فبينما هو يحدث نفسه أن يغزوهم إذ أتاه الوفد فقالوا: يا رسول الله، إنا بلغنا أن رسولك رجع من نصف الطريق، وإنا خشينا أن ما رده كتاب جاء منك لغضب غضبته علينا، وإنا نعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله. فأنزل الله- تعالى- الآية .
والفاسق: هو الخارج عن الحدود الشرعية التي يجب التزامها، مأخوذ من قولهم: فسقت الرطبة، إذا خرجت عن قشرتها، وسمى بذلك لانسلاخه عن الخير والرشد.
وقرأ الجمهور: فَتَبَيَّنُوا وقرأ حمزة والكسائي فتثبتوا ومعناهما واحد، إذ هما بمعنى التأنى وعدم التعجل في الأمور حتى تظهر الحقيقة فيما أخبر به الفاسق.
أى: يا من آمنتم بالله حق الإيمان، إن جاءكم فاسق بخبر من الأخبار، ولا سيما الأخبار الهامة، فلا تقبلوه بدون تبين أو تثبت، بل تأكدوا وتيقنوا من صحته قبل قبوله منه.
والتعبير «بإن» المفيدة للشك، للإشعار بأن الغالب في المؤمن أن يكون يقظا، يعرف مداخل الأمور، وما يترتب عليها من نتائج، ويحكم عقله فيما يسمع من أنباء، فلا يصدق خبر الفاسق إلا بعد التثبت من صحته.
قال صاحب الكشاف: وفي تنكير الفاسق والنبأ: شياع في الفساق والأنباء، كأنه قال:
أى فاسق جاءكم بأى نبأ فتوقفوا فيه، وتطلبوا بيان الأمر، وانكشاف الحقيقة ولا تعتمدوا على قول الفاسق، لأن من لا يتحامى جنس الفسوق لا يتحامى الكذب الذي هو نوع منه .
وقال القرطبي: وفي الآية دليل على قبول خبر الواحد إذا كان عدلا، لأنه إنما أمر فيها بالتثبت عند نقل خبر الفاسق، ومن ثبت فسقه بطل قوله في الأخبار إجماعا، لأن الخبر أمانة والفسق قرينة يبطلها .
وقوله: أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ ... تعليل للأمر بالتبين، بتقدير لام التعليل، أو بتقدير ما هو بمعنى المفعول لأجله. والجهالة بمعنى الجهل بحقيقة الشيء.
أى: تثبتوا- أيها المؤمنون- من صحة خبر الفاسق، لئلا تصيبوا قوما بما يؤذيهم، والحال أنكم تجهلون حقيقة أمرهم، أو خشية أن تصيبوا قوما بجهالة، لظنكم أن النبأ الذي جاء به الفاسق حقا.
وقوله: فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ بيان للنتائج السيئة التي تترتب على تصديق خبر الفاسق، وفَتُصْبِحُوا بمعنى تصيروا، والندم: غم يلحق الإنسان لأمور وقعت منه، ثم صار يتمنى بعد فوات الأوان عدم وقوعها. أى: فتصيروا على ما فعلتم مع هؤلاء القوم نادمين ندما شديدا، بسبب تصديقكم لخبر الفاسق بدون تبين أو تثبت.
فالآية الكريمة ترشد المؤمنين في كل زمان ومكان إلى كيفية استقبال الأخبار استقبالا سليما، وإلى كيفية التصرف معها تصرفا حكيما، فتأمرهم بضرورة التثبت من صحة مصدرها، حتى لا يصاب قوم بما يؤذيهم بسبب تصديق الفاسق في خبره، بدون تأكد أو تحقق من صحة ما قاله.. وبهذا التحقق من صحة الأخبار، يعيش المجتمع الإسلامى في أمان واطمئنان، وفي بعد عن الندم والتحسر على ما صدر منه من أحكام.