الوسيط للطنطاوي
تفسير الآية رقم 16 من سورة الفتح
ثم فتح- سبحانه- أمام هؤلاء المخلفين من الأعراب باب التوبة، فأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يدعوهم إلى الجهاد معه، فإن صدقوا أفلحوا، وإن أعرضوا خسروا فقال: قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ، تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ.
أى: قل- أيها الرسول الكريم- لهؤلاء المخلفين من الأعراب عن الخروج معك، ستدعون في المستقبل إلى القتال معى لقوم أصحاب قوة وشدة في الحرب، فيكون بينكم وبينهم أمران لا ثالث لهما: إما قتالكم لهم، وإما الإسلام منهم.
«فـ"أو"» في قوله أَوْ يُسْلِمُونَ للتنويع والحصر. وجملة «تقاتلونهم أو يسلمون»
مستأنفة للتعليل، كما في قوله: سيدعوك الأمير للقائه يكرمك أو يخزى عدوك.
وقد اختلف المفسرون في المراد بهؤلاء القوم أولى البأس الشديد، فمنهم من قال: فارس والروم، ومنهم من قال: بنو حنيفة أتباع مسيلمة الكذاب.
والذي عليه المحققون من العلماء أن المقصود بهم: هوازن وثقيف الذين التقى بهم المسلمون في غزوة حنين بعد فتح مكة.
وذلك لأن عددا كبيرا من تلك القبائل المتخلفة قد اشتركت في تلك الغزوة، حتى لقد بلغ عدد المسلمين فيها ما يقرب من اثنى عشر ألفا، ولأن أهل هوازن وثقيف قد كانوا يجيدون الرماية والكر والفر، فاستطاعوا في أول المعركة- بعد أن اغتر المسلمون بقوتهم- أن يفرقوا بعض صفوف المسلمين، ثم تجمع المسلمون بعد ذلك وانتصروا عليهم، ثم كانت النتيجة أن انتهت تلك الغزوة بإسلام هوازن وثقيف. كما هو معروف في كتب السيرة.
ولقد أشار القرآن الكريم إلى ما كان بين المسلمين وبين هوازن وثقيف من قتال في قوله- تعالى-: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً، وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ، ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ. ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها، وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ. ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ، وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ .
وقد رجح فضيلة شيخنا الدكتور أحمد السيد الكومى أن يكون المقصود بالقوم أولى البأس الشديد هوازن وثقيف، فقال ما ملخصه: وتكاد تنفق كتب السيرة على أن الجيش الذي ذهب لفتح مكة، ثم ذهب بعد ذلك إلى غزو هوازن وثقيف يوم حنين، كان يضم بين جوانحه العدد الكثير من قبائل أسلم وأشجع وجهينة وغفار ومزينة.
وإذن فالأمر المحقق أن القبائل المتخلفة يوم الحديبية، ساهمت في الجهاد بقسط وافر يوم فتح مكة، ويوم حنين..
وقد أقام المسلمون بمكة بعد أن فتحوها- بدون قتال يذكر- خمسة عشر يوما.. ثم ذهبوا لقتال هوازن وثقيف.. وكانوا رماة مهرة ذوى مهارة حربية، ودراية بفنون القتال فهزموا المسلمين في أول الأمر، ثم هزمهم المسلمون.
ومن كل ذلك يترجح الحكم بأن هؤلاء القوم هم هوازن، وأن كثيرا من المخلفين أسلم إسلاما خالصا، وحسنت توبته.. .
وقوله- سبحانه-: فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً، وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً بيان للثواب العظيم الذي أعده- سبحانه- للطائفين، وللعذاب الأليم الذي توعد به الفاسقين.
أى: فإن تطيعوا- أيها المخالفون- رسولكم صلّى الله عليه وسلّم يؤتكم الله من فضله أجرا حسنا، وإن تتولوا وتعرضوا عن الطاعة، كما أعرضتم من قبل في صلح الحديبية عن طاعته، يعذبكم- سبحانه- عذابا أليما.