الوسيط للطنطاوي
تفسير الآية رقم 4 من سورة محمد
والفاء في قوله- تعالى-: فَإِذا لَقِيتُمُ لترتيب ما بعدها من إرشاد المؤمنين إلى ما يجب عليهم فعله عند قتل أعدائهم، على ما قبلها وهو بيان حال الكفار.
فالمراد باللقاء هنا: القتال لا مجرد اللقاء والرؤية. كما أن المراد بالذين كفروا هنا المشركون وكل من كان على شاكلتهم ممن ليس بيننا وبينهم عهد بل بيننا وبينهم حرب وقتال.
وقوله- سبحانه-: فَضَرْبَ الرِّقابِ أمر للمؤمنين بما يجب فعله عند لقائهم لأعدائهم. وقوله: فَضَرْبَ منصوب على أنه مصدر لفعل محذوف. أى: فإذا كان حال الذين كفروا كما ذكرت لكم من إحباط أعمالهم بسبب اتباعهم الباطل وإعراضهم عن الحق، فإذا لقيتموهم للقتال، فلا تأخذكم بهم رأفة، بل اضربوا رقابهم ضربا شديدا.
والتعبير عن القتل بقوله: فَضَرْبَ الرِّقابِ، لتصويره في أفظع صوره. ولتهويل أمر هذا القتال، ولإرشاد المؤمنين إلى ما يجب عليهم فعله.
قال صاحب الكشاف: قوله: لَقِيتُمُ من اللقاء وهو الحرب فَضَرْبَ الرِّقابِ أصله: فاضربوا الرقاب ضربا، فحذف الفعل وقدم المصدر، فأنيب منابه مضافا إلى المفعول، وفيه اختصار مع إعطاء معنى التوكيد، لأنك تذكر المصدر، وتدل على الفعل بالنصبة التي فيه.
وضرب الرقاب: عبارة عن القتل.. وذلك أن قتل الإنسان أكثر ما يكون بضرب رقبته، فوقع عبارة عن القتل، وإن ضرب بغير رقبته من المقاتل.
على أن في هذه العبارة من الغلظة والشدة، ما ليس في لفظ القتل، لما فيها من تصوير القتل بأشنع صورة، وهو حز العنق، وإطارة العضو الذي هو رأس البدن .
وقوله- سبحانه-: حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ بيان لما يكون من المؤمنين بعد مثل حركة أعدائهم، وإنزال الهزيمة بهم.
وقوله: أَثْخَنْتُمُوهُمْ من الإثخان بمعنى كثرة الجراح، مأخوذ من الشيء الثخين، أى: الغليظ. يقال: أثخن الجيش في عدوه، إذا بالغ في إنزال الجراحة الشديدة به، حتى أضعفه وأزال قوته.
والوثاق- بفتح الواو وكسرها- اسم للشيء الذي يوثق به الأسير كالرباط أى: عند لقائكم- أيها المؤمنون- لأعدائكم، فاضربوا أعناقهم، فإذا ما تغلبتم عليهم وقهرتموهم، وأنزلتم بهم الجراح التي تجعلهم عاجزين عن مقاومتكم، فأحكموا قيد من أسرتموه منهم، حتى لا يستطيع التفلت أو الهرب منكم.
وقوله- سبحانه- فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً إرشاد لما يفعلونه بعد ذلك.
والمن: الإطلاق بغير عوض، يقال: منّ فلان على فلان إذا أنعم عليه بدون مقابل.
والفداء: ما يقدمه الأسير من أموال أو غيرها لكي يفتدى بها نفسه من الأسر.
وقوله: مَنًّا وفِداءً منصوبان على المصدرية بفعل محذوف: أى: فإما تمنون عليهم بعد الأسر منا بأن تطلقوا سراحهم بدون مقابل، وإما أن تفدوا فداء بأن تأخذوا منهم فدية في مقابل إطلاق سراحهم.
وقوله- سبحانه- حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها غاية لهذه الأوامر والإرشادات.
وأوزار الحرب: آلاتها وأثقالها التي لا تقوم إلا بها، كالسلاح وما يشبه.
قال الشاعر:
وأعددت للحرب أوزارها ... رماحا طوالا وخيلا ذكورا
أى: افعلوا بهم ما أمرناكم بفعله، واستمروا على ذلك حتى تنتهي الحرب التي بينكم وبين أعدائكم بهزيمتهم وانتصاركم عليهم.
وسميت آلات الحرب وأحمالها بالأوزار، لأن الحرب لما كانت لا تقوم إلا بها، فكأنها تحملها وتستقل بها، فإذا انقضت الحرب فكأنها وضعت أحمالها وانفصلت عنها.
ثم بين- سبحانه- الحكمة من مشروعية قتال الأعداء، مع أنه- سبحانه- قادر على إهلاك هؤلاء الأعداء، فقال: ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ، وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ.
واسم الإشارة: خبر لمبتدأ محذوف، أى: الأمر ذلك، أو في محل نصب على المفعولية بفعل محذوف، أى: افعلوا ذلك الذي أمرناكم به وأرشدناكم إليه واعلموا أنه- سبحانه- لو يشاء الانتصار من هؤلاء الكافرين والانتقام منهم لفعل، أى: لو يشاء إهلاكهم لأهلكهم، ولكنه- سبحانه- لم يفعل ذلك بل أمركم بمحاربتهم ليختبر بعضكم ببعض، فيتميز عن طريق هذا الاختبار والامتحان، قوى الإيمان من ضعيفه. كما قال- تعالى-: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ.
ثم بين- سبحانه- بعد ذلك ما أعده للمجاهدين من ثواب عظيم فقال: وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أى: والذين استشهدوا وهم يقاتلون من أجل إعلاء كلمة الله.
فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ أى: فلن يضيع أعمالهم ولن يبطلها.