الوسيط للطنطاوي
تفسير الآية رقم 81 من سورة النساء
والضمير في قوله وَيَقُولُونَ للمنافقين ومن يلفون لفهم.
أى: أن هؤلاء المنافقين إذا أمرتم يا محمد بأمر وهم عندك يقولون طاعة أى أمرنا وشأننا طاعة. يقولون ذلك بألسنتهم أما قلوبهم فهي تخالف ألسنتهم.
وقوله طاعَةٌ خبر لمبتدأ محذوف وجوبا أى: أمرنا طاعة. ويجوز النصب على معنى:
أطعناك طاعة. كما يقول المأمور لمن أمره: سمعا وطاعة، وسمع وطاعة.
قال صاحب الكشاف: ونحوه قول سيبويه: سمعنا بعض العرب الموثوق بهم يقال له:
كيف أصبحت؟ فيقول: حمد الله وثناء عليه، كأنه قال: أمرى وشأنى حمد الله. ولو نصب «حمد الله» كان على الفعل. والرفع يدل على ثبات الطاعة واستقرارها.
ثم حكى- سبحانه- ما يكون عليه أمر هؤلاء المنافقين بعد خروجهم من عند الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ.
وقوله بَيَّتَ من التبييت واشتقاقه- كما يقول الفخر الرازي- من البيتوتة، لأن أصلح الأوقات للفكر أن يجلس الإنسان في بيته بالليل، فهناك تكون الخواطر أخلى، والشواغل أقل.
لا جرم سمى الفكر المستقصى مبيتا. أو من بيت الشعر، لأن العرب إذا أرادوا قرض الشعر بالغوا في التفكر فيه ...
والمراد: زوّر وموّه ودبّر.
والمعنى: أن هؤلاء المنافقين إذا كانوا عندك- يا محمد- وأمرتهم بأمر قالوا: طاعة، فإذا ما خرجوا من عندك وفارقوك دبر وأضمر طائفة منهم وهم رؤساؤهم «غير الذي تقول» أى خلاف ما قلت لتلك الطائفة أو قالت لك من ضمان الطاعة. فهم أمامك يظهرون الطاعة المطلقة، ومن خلفك يدبرون ويضمرون ما يناقض هذه الطاعة ويخالفها.
والتعبير عن الخروج بالبروز للإشارة إلى تفاوت ما بين أحوالهم، وتناقض مظهرهم مع خبيئتهم.
وإسناد هذا التبييت إلى طائفة منهم، لبيان أنهم هم المتصدون له بالذات، أما الباقون فتابعون لهم في ذلك، لا أنهم ثابتون على الطاعة.
وقوله وَاللَّهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ أى يثبته في صحائف أعمالهم. وبفضحهم بسبب سوء أعمالهم في الدنيا، ثم يجازيهم على هذا النفاق بما يستحقون في الآخرة، فالجملة الكريمة تهديد لهم على سوء صنيعهم، لعلهم يكفون عن هذا النفاق، وتطمين للنبي صلى الله عليه وسلم بأنه- سبحانه- سيطلعه على مكرهم السيئ لكي يتقى شرهم، ولذا فقد أمره- سبحانه- بعدم الالتفات إليهم، وبالتوكل عليه- تعالى- وحده فقال:
فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا. أى: إذا كان هذا هو شأنهم يا محمد.
فلا تكثرت بهم، ولا تلتفت إليهم، وسر في طريقك متوكلا على الله، ومعتمدا على رعايته وحفظه، وكفى بالله وكيلا وكفيلا لمن توكل عليه، واتبع أمره ونهيه. فأنت ترى أن الآية الكريمة قد كشفت عن جانب من صفات المنافقين وأحوالهم، ثم هددتهم على جرائمهم، ورسمت للنبي صلى الله عليه وسلم الخطة الحكيمة لعلاجهم واتقاء شرهم.