الوسيط للطنطاوي
تفسير الآية رقم 163 من سورة النساء
قال الإِمام الرازى: اعلم أنه - تعالى - لما حكى أن اليهود سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينزل عليهم كتابا من السماء، وذكر - سبحانه - بعد ذلك أنهم لا يسألون لأجل الاسترشاد، ولكن لأجل العناد واللجاج، وحكى أنواعا كثيرة من فضائحهم وقبائحهم... شرع - سبحانه - بعد ذلك فى الجواب عن شبهاتهم فقال: { إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَىٰ نُوحٍ وَٱلنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ }.
وقوله { أَوْحَيْنَآ } من الإِيحاء و الوحى. والوحى فى الأصل: الإِعلام فى خفاء عن طريق الإِشارة، أو الإِيماء، أو الإِلهام، أو غير ذلك من المعانى التى تدل على أنه إعلام خاص، وليس أعلاما ظاهراً.
والمراد به هنا إعلام الله - تعالى - نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم ما أراد إعلامه به من قرآن أو غيره.
والمعنى: إنا أوحينا إليك يا محمد بكلامنا وأوامرنا ونواهينا وهداياتنا.. كما اوحينا إلى نبينا نوح وإلى سائر الأنبياء الذين جاءوا من بعده. فأنت يا محمد لست بدعا من الرسل، وإنما أنت رسول من عند الله - تعالى - تلقيت رسالتك منه - سبحانه - كما تلقاها غيرك من الرسل.
وأكد - سبحانه - خبر إيحائه صلى الله عليه وسلم، للاهتمام بهذا الخبر، ولإِبطال ما أنكره المنكرون لوحى الله - تعالى - على أنبيائه ورسله فقد حكى القرآن عن الجاحدين للحق أنهم قالوا:
{ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَىٰ بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ }
وبدأ سبحانه؛ بنوح عليه السلام، لأنه الأب الثانى للبشرية بعد آدم عليه السلام، ولأن فى ذكره معنى التهديد لأولئك الجاحدين للرسالة السماوية، فقد أجاب الله تعالى، دعاءه فى الكافرين فأغرقهم أجمعين.
قال الجمل: وإنما بدأ الله - تعالى - بذكر نوح - عليه السلام - لأنه أول نبى بعث بشريعة، وأول نذير على الشرك. وكان أول من عذبت أمته لردهم دعوته. وكان أطول الأنبياء عمرا.
والتشبيه فى قوله: { كَمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَىٰ نُوحٍ } تشبيه بجنس الوحى، وإن اختلفت أنواعه، واختلف الموحى به.
والكاف فى قوله { كَمَآ } نعت لمصدر محذوف، { مَآ } مصدرية. أى: إنا أوحينا إليك إيحاءً مثل إيحائنا إلى نوح - عليه السلام -.
وقوله { مِن بَعْدِهِ } جار ومجرور متعلق بمحذوف صفة للبنيين أى: والنبيين الكائنين من بعده أى: من بعد نوح.
وقوله: { وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَٱلأَسْبَاطِ } معطوف على أوحينا إلى نوح، داخل معه فى حكم التشبيه.
أى: أوحينا إليك يا محمد كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده، وكما أوحينا إلى إبراهيم من آزر، وكما أوحينا إلى ابنه اسماعيل، وابنه إسحاق، وكما أوحينا إلى يعقوب بن إسحاق، وكما أوحينا إلى الأسباط وهم أولاد يعقوب.
قال الآلوسى: والأسباط هم أولاد يعقوب - عليه السلام - فى المشهور. وقال غير واحد: إن الأسباط فى ولد إسحاق كالقبائل فى أولاد إسماعيل وقد بعث منهم عدة رسل. فيجوز أن يكون - سبحانه - أراد بالوحى إليهم، الوحى إلى الأنبياء منهم. كما تقول: أرسلت إلى بنى تميم، وتريد أرسلت إلى وجوههم ولم يصح أن الأسباط الذين هم إخوة يوسف كانوا أنبياء، بل الذى صح عندى - وألف فيه الجلال السيوطى رسالة - خلافه ".
وكرر - سبحانه - كلمة { وَأَوْحَيْنَآ } للإِشعار بوجود فترة زمنية طويلة بين نوح وبين إبراهيم - عليهما السلام -.
ثم ذكر - سبحانه - عدداً آخر من الأنبياء تشريفا وتكريما لهم فقال { وَعِيسَىٰ وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً }.
أى: أوحينا إليك يا محمد كما أوحينا إلى هؤلاء الأنبياء السابقين، وكما أوحينا إلى عيسى ابن مريم الذى أنكر نبوته اليهود الذين يسألونك الأسئلة المتعنتة، وإلى أيوب الذى ضرب به المثل فى الصبر، وإلى يونس بن متى الذى لم ينس ذكر الله وهو فى بطن الحوت، وإلى هارون أخى موسى، وإلى سليمان بن داود الذى آتاه الله ملكا لم يؤته لأحد من بعده.
وقوله: { وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً } معطوف على قوله: أوحينا، وداخل فى حكمه لأن إيتاء الزبور من باب الإِيحاء.
وأوثر. قوله هنا: وآتينا على أوحينا؛ لتحقق المماثلة فى أمر خاص وهو إيتاء الكتاب بعد تحققها فى مطلق الإِيحاء.
والزبور - بفتح الزاى - اسم الكتاب الذى أنزله الله على داود - عليه السلام - قالوا: ولم يكن فيه أحكام، بل كان كله مواعظ وحكم وتقديس وتحميد وثناء على الله - تعالى -.
ولفظ (زبور) هنا بمعنى مزبور أى متكوب. فهو على وزن فعول ولكن بمعنى مفعول. وزبر معناه كتب. أى: وآتينا داود كتابا مكتوبا.