الوسيط للطنطاوي
تفسير الآية رقم 101 من سورة النساء
قوله وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ أى: إذا سافرتم، وأطلق الضرب في الأرض على السفر لأن المسافر يضرب برجله وبراحلته على الأرض.
والمراد من الأرض: ما يشمل البر والبحر. أى إذا سافرتم- أيها المؤمنون- في أى مكان يسافر فيه من بر أو بحر فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أى: حرج أو إثم في أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ أى في أن تنقصوا منها ما خففه الله عنكم رحمة بكم.
وقوله تَقْصُرُوا من القصر وهو ضد المد. يقال قصرت الشيء أى جعلته قصيرا بحذف بعض أجزائه أو أوصافه.
ومن في قوله مِنَ الصَّلاةِ يجوز أن تكون زائدة للتأكيد فيكون لفظ الصلاة مفعولا به لتقصروا. ويجوز أن تكون للتبعيض فيكون المفعول محذوفا. والجار والمجرور في موضع الصفة.
أى: فليس عليكم جناح في أن تقصروا شيئا من الصلاة.
وقوله إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا جملة شرطية وجوابها محذوف دل عليه ما قبله.
والمراد بالفتنة هنا: إنزال الأذى بالمؤمنين.
أى: إن خفتم أن يتعرض لكم المشركون بما تكرهونه من القتال أو غيره حين سفركم فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة.
وقوله إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً تعليل لتأكيد أخذ الحذر من الكفار دائما، لأن عداوتهم للمؤمنين ظاهرة، وكراهتهم لهم شديدة.
أى: إن الكافرين كانوا وما زالوا بالنسبة لكم- أيها المؤمنون- يظهرون العداوة، وما تخفيه صدورهم لكم من أحقاد وكراهية أشد وأكبر.
وقد أكد- سبحانه- هذه العداوة بإن الدالة على التوكيد، وبكان المفيدة للدوام والاستمرار، وبوصف هذه العداوة بالسفور والظهور، لكي يحترس المسلمون منهم أشد الاحتراس.
هذا، ومن الأحكام التي أخذها العلماء من هذه الآية ما يأتى:
1- أن قصر الصلاة في السفر سنة. ومنهم من يرى أن المصلى مخير فيه كما يخير في الكفارات. ومنهم من يرى أنه فرض.
قال القرطبي ما ملخصه: واختلف العلماء في حكم القصر في السفر فروى عن جماعة أنه فرض وهو قول عمر بن عبد العزيز والكوفيين. واحتجوا بحديث عائشة «فرضت الصلاة ركعتين ركعتين» ولا حجة فيه لمخالفتها له فإنها كانت تتم في السفر وذلك يوهنه ...
وحكى ابن الجهم أن أشهب روى عن مالك أن القصر فرض. ومشهور مذهبه وجل أصحابه، وأكثر العلماء من السلف والخلف أن القصر سنة. وهو الصحيح.
ومذهب عامة البغداديين من المالكيين أن الفرض التخيير. ثم اختلفوا في أيهما أفضل، فقال بعضهم: القصر أفضل.. وقيل: الإتمام أفضل» .
أما بالنسبة لمسافة السفر التي يجوز معها قصر الصلاة للعلماء فيها أقوال منها: أن السفر الذي يسوغ القصر هو ما كان مسيرة ثلاثة أيام بلياليها بالسير المعتاد.
وهذا رأى الأحناف. ومن حججهم قوله صلى الله عليه وسلم: «يمسح المقيم يوما وليلة والمسافر ثلاثة أيام بلياليها» وأيضا ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم منع المرأة من السفر فوق ثلاث إلا مع زوج أو محرم، فدل هذا على أن ما دون الثلاث لا يعد سفرا، بل هو في حكم الإقامة، حيث جعل الثلاث فاصلا بين الخروج بدون محرم وعدمه. وأيضا فقد جرى عرف العرب أن الرجل كان لا يعتبر مسافرا إلا بسير نحو ثلاثة أيام.
أما المالكية والشافعية وأكثر الأئمة فيرون أن السفر الذي تقصر فيه الصلاة هو ما كان مسيرة يوم وليلة وقيل يوم فقط، وذلك لما رواه ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يا أهل مكة لا تقصروا في أدنى من أربعة برد. من مكة إلى عسفان، وقد قدرت هذه المسافة بمسيرة يوم وليلة أو يوم فقط.
ويرى داود الظاهري وأتباعه أن القصر في كل ما يسمى سفرا، سواء أكان قصيرا أم طويلا لأن المدار عندهم في تحقيق القصر على تحقيق شرطه وهو الضرب في الأرض، ولأن كلمة الضرب في الأرض قد جاءت على إطلاقها من غير تقييد بمدة معلومة ولا مسافة محدودة.
وقد رد جمهور العلماء عليهم بردود منها: أن الضرب في الأرض حقيقته الانتقال من مكان إلى مكان. وظاهر أن مجرد الانتقال من مكان إلى آخر لا يكون سببا في الرخصة، فلا بد أن يكون السفر المرخص فيه بالقصر سفرا مخصوصا، وقد بينت السنة النبوية الشريفة مقداره على خلاف في الروايات.
هذا، وقد حكى القرطبي أقوال بعض العلماء في نقد أولئك الذين يأخذون الأمور بظواهرها بدون فهم سليم فقال:
قال ابن العربي: وقد تلاعب قوم بالدين فقالوا: إن من خرج من البلد إلى ظاهره أكل وقصر وقائل هذا أعجمى لا يعرف السفر عند العرب، أو مستخف بالدين. ولولا أن العلماء ذكروه لما رضيت أن ألمحه بمؤخر عيني، ولا أفكر فيه بفضول قلبي. ولم يذكر حد السفر الذي يقع به القصر لا في القرآن ولا في السنة. وإنما كان كذلك، لأنها كانت لفظة عربية مستقر علمها عند العرب الذين خاطبهم الله بالقرآن فنحن نعلم قطعا أن من برز عن الدور لبعض الأمور أنه لا يكون مسافرا لا لغة ولا شرعا. وإن من مشى مسافرا ثلاثة أيام فإنه يكون مسافرا قطعا. كما أننا نحكم على من مشى يوما وليلة أنه كان مسافرا، لحديث «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم إلا مع ذي محرم منها» وهذا هو الصحيح لأنه وسط بين الحالين. وعليه عول مالك. ولكنه لم يجد هذا الحديث متفقا عليه، فقد روى مرة «يوما وليلة» ومرة «ثلاثة أيام» ...
ثم قال القرطبي: واختلفوا في نوع السفر الذي تقصر فيه الصلاة. فأجمع الناس على الجهاد والحج والعمرة وما ضارعها من صلة رحم.. واختلفوا فيما سوى ذلك. فالجمهور على جواز القصر في السفر المباح كالتجارة وغيرها. وعلى أنه لا قصر في سفر المعصية كالباغي وقاطع الطريق وما في معناهما.
ثم قال: واختلف العلماء في مدة الإقامة التي إذا نواها المسافر أتم. فقال مالك والشافعى والليث بن سعد: إذا نوى الإقامة أربعة أيام أتم.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: إذا نوى الإقامة خمس عشرة ليلة أتم، وإن كان أقل من ذلك قصر.
2- ذهب جمهور العلماء إلى أن الآية الكريمة المقصود منها تشريع صلاة السفر، وأن المراد بالقصر في قوله «أن تقصروا من الصلاة» هو القصر في الكمية أى في عدد الركعات، بأن يصلى المسافر الصلاة الرباعية ركعتين، وأن حكمها للمسافر في حال الأمن كحكمها في حال الخوف لتظاهر السنن على مشروعيتها مطلقا.
وقد وضح هذه المسألة الإمام ابن كثير توضيحا حسنا فقال ما ملخصه: وقوله- تعالى- إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا الشرط فيه خرج مخرج الغالب حال نزول هذه الآية. إذ كانت أسفارهم بعد الهجرة في مبدئها مخوفة. بل كانوا لا ينهضون إلا إلى غزو عام، أو سرية خاصة، وسائر الأحياء حرب للإسلام وأهله. والمنطوق إذا خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له.
كقوله- تعالى- وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً وقوله- تعالى- وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ.
ومما يشهد بأن للمسافر أن يقصر سواء أكان آمنا أم خائفا ما رواه الترمذي والنسائي عن ابن عباس. أن النبي صلى الله عليه وسلم: خرج من المدينة إلى مكة لا يخاف إلا الله رب العالمين فصلى ركعتين.
وروى البخاري عن حارثة بن وهب الخزاعي قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم آمن ما كان بمنى ركعتين.
وروى البخاري عن أنس قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة. فكان يصلى ركعتين ركعتين حتى رجعنا إلى المدينة.
وروى مسلم وأحمد وأهل السنن عن يعلى بن أمية قال: سألت عمر بن الخطاب. قلت له:
قوله- تعالى-: فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا. وقد أمن الناس؟ فقال لي عمر: عجبت مما عجبت منه. فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: «صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته» .
وروى أبو بكر بن أبى شيبة عن أبى حنظلة الحذاء قال: سألت ابن عمر عن صلاة السفر؟
فقال: ركعتان، فقلت له: أين قوله، إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا ونحن آمنون؟
فقال: سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فأنت ترى من هذه النصوص أنها تدل على أن الآية الكريمة مسوقة في تشريع صلاة السفر سواء أكان المسافر آمنا أم خائفا، وأن قوله- تعالى- أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ المراد من القصر هنا قصر عدد الركعات من أربع إلى اثنين كما كان يفعل النبي صلى الله عليه وسلم في أسفاره، وأن القصر للصلاة في السفر بالنظر لما كانت عليه في الحضر.
قالوا: ومما يدل على أن لفظ القصر كان مخصوصا في عرفهم بنقص عدد الركعات، ما رواه البخاري عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «انصرف من اثنتين- أى صلى الصلاة الرباعية ركعتين عن سهو- فقال له ذو اليدين: أقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول الله؟ ....
هذا ويرى بعض العلماء أن هذه الآية نزلت في صلاة الخوف، وأن المقصود بالقصر هنا هو قصر الكيفية لا الكمية- أى تخفيف ما اشتملت عليه من قراءة وتسبيح وغير ذلك- لأنهم يرون أن كمية صلاة المسافر ركعتان فهي تمام غير قصر.
قال ابن كثير ما ملخصه: ومن العلماء من قال: إن المراد من القصر هاهنا إنما هو قصر الكيفية لا الكمية وهو قول مجاهد والضحاك والسدى واعتقدوا بما رواه الإمام مالك عن عائشة أنها قالت فرضت الصلاة ركعتين ركعتين في السفر والحضر، فأقرت صلاة السفر، وزيد في صلاة الحضر.
قالوا: فإذا كان أصل الصلاة في السفر هي اثنتين فكيف يكون المراد بالقصر هنا قصر الكمية. لأن ما هو الأصل لا يقال فيه فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ. وروى الإمام أحمد والنسائي وابن ماجة عن عمر- رضى الله عنه- قال: صلاة السفر ركعتان وصلاة الأضحى ركعتان، وصلاة الفطر ركعتان، وصلاة الجمعة ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم» .
وقال القرطبي: وذهب جماعة إلى أن هذه الآية إنما هي مبيحة للقصر في السفر للخائف من العدو فمن كان آمنا فلا قصر له. روى عن عائشة أنها كانت تقول في السفر: أتموا صلاتكم.
فقالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقصر. فقالت: إنه كان في حرب وكان يخاف وهل أنتم تخافون؟ ...
وذهب جماعة إلى أن الله- تعالى- لم يبح القصر في كتابه إلا بشرطين: السفر والخوف وفي غير الخوف بالسنة .
ويبدو لنا أن الأولى ما ذهب إليه جمهور العلماء من أن الآية الكريمة المقصود منها تشريع صلاة السفر وأن المراد بالقصر فيها قصر كمية الصلاة بحيث يصلى المسافر الصلاة الرباعية ركعتين تخفيفا من الله- تعالى- عليه، سواء أكان في حالة أمن أم حالة خوف، لأن النصوص التي ساقها الجمهور لتأييد رأيهم صريحة في صحة ما ذهبوا إليه، ولأن القصر في اللغة معناه أن تقتصر من الشيء على بعضه، وهذا أظهر ما يكون في قصر الركعات على اثنين بدل أربع، أما القصر في الصفة أو الكيفية فهو تغيير في الصلاة لا إتيان بالبعض، إذ هو إحلال للإيماء محل الركوع والسجود- مثلا-. وأيضا فإن مِنَ في قوله أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ تكون أظهر في الاقتصار على بعض الركعات عند من يجعل هذا الحرف للتبعيض.
ومن أراد مزيد بيان لتلك المسائل فليرجع إلى أمهات كتب الفقه والتفسير.