الوسيط للطنطاوي
تفسير الآية رقم 65 من سورة يس
والمراد باليوم في قوله- تعالى-: الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ ... يوم القيامة.
وقوله: نَخْتِمُ من الختم، والختم الوسم على الشيء بطابع ونحوه. مأخوذ من وضع الخاتم على الشيء وطبعه فيه للاستيثاق، لكي لا يخرج منه ما هو بداخله، ولا يدخله ما هو خارج عنه.
أى: في يوم القيامة نختم على أفواه الكافرين فنجعلها لا تنطق، وإنما تكلمنا أيديهم، وتشهد عليهم أرجلهم بما كانوا يكسبونه في الدنيا من أقوال باطلة، وأفعال قبيحة.
قالوا: وسبب الختم على أفواههم، أنهم أنكروا أنهم كانوا مشركين في الدنيا، كما حكى عنهم- سبحانه- ذلك في قوله- تعالى-: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ أو ليكونوا معروفين لأهل الموقف في ذلك اليوم العصيب، أو لأن إقرار غير الناطق أبلغ في الحجة من إقرار الناطق، أو ليعلموا أن أعضاءهم التي ارتكبت المعاصي في الدنيا، قد صارت شهودا عليهم في الآخرة.
وجعل- سبحانه- ما تنطق به الأيدى كلاما، وما تنطق به الأرجل شهادة، لأن مباشرة المعاصي- غالبا- تكون بالأيدى، أما الأرجل فهي حاضرة لما ارتكب بالأيدى من سيئات، وقول الحاضر على غيره شهادة بما له، أما قول الفاعل فهو إقرار ونطق بما فعله.
قال الجمل: وقال الكرخي: أسند سبحانه فعل الختم إلى نفسه، وأسند الكلام والشهادة إلى الأيدى والأرجل، لئلا يكون فيه احتمال أن ذلك منهم كان جبرا، أو قهرا. والإقرار مع الإجبار غير مقبول. فقال: تكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم، أى باختيارها بعد إقدار الله لها على الكلام، ليكون أدل على صدور الذنب منهم .
وقد ساق الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآيات جملة من الأحاديث. التي صرحت بأن أعضاء الإنسان تشهد عليه يوم القيامة بما ارتكبه في الدنيا من سيئات. ومن تلك الأحاديث ما جاء عن أنس بن مالك- رضى الله عنه- أنه قال: كنا عند النبي صلّى الله عليه وسلم فضحك حتى بدت نواجذه، ثم قال: «أتدرون مم أضحك؟ قلنا: الله ورسوله أعلم. قال من مجادلة العبد ربه يوم القيامة.
يقول: رب ألم تجرني من الظلم؟ فيقول: بلى، فيقول: لا أجيز علىّ إلا شاهدا من نفسي، فيقول الله- تعالى- له: كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا، وبالكرام الكاتبين شهودا.
قال: فيختم على فيه، ويقال لأركانه- أى لأعضائه-: انطقى. فتنطق بما عمله، ثم يخلى بينه وبين الكلام، فيقول: بعدا وسحقا فعنكن كنت أناضل» . .
وشبيه بهذه الآية قوله- تعالى-: وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ. حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ .