الوسيط للطنطاوي
تفسير الآية رقم 4 من سورة الأحزاب
قال القرطبي ما ملخصه: قوله- تعالى- ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ نزلت في رجل من قريش اسمه جميل بن معمر الفهري، كان حفاظا لما يسمع، وكان يقول:
لي قلبان أعقل بهما أفضل من عقل محمد. فلما هزم المشركون يوم بدر، ومعهم هذا الرجل، رآه أبو سفيان وهو معلق إحدى نعليه في يده والأخرى في رجله- من شدة الهلع-، فقال له أبو سفيان: ما حال الناس؟ قال: انهزموا. فقال له: فما بال إحدى نعليك في يدك والأخرى في رجلك؟ قال: ما شعرت إلا أنهما في رجلي. فعرفوا يومئذ أنه لو كان له قلبان لما نسى نعله في يده.
وقيل سبب نزولها أن بعض المنافقين قال: إن محمدا صلّى الله عليه وسلّم له قلبان، لأنه ربما كان في شيء فنزع في غيره نزعة ثم عاد إلى شأنه الأول، فأكذبهم الله بقوله: ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ .
ويرى بعضهم: أن هذه الجملة الكريمة، مثل ضربه الله- تعالى- للمظاهر من امرأته، والمتبنى ولد غيره، تمهيدا لما بعده.
أى: كما أن الله- تعالى- لم يخلق للإنسان قلبين في جوفه، كذلك لم يجعل المرأة الواحدة زوجا للرجل وأما له في وقت واحد، وكذلك لم يجعل المرء دعيا لرجل وابنا له في زمن واحد.
وإلى هذا المعنى أشار صاحب الكشاف بقوله: أى: ما جمع الله قلبين في جوف، ولا زوجية وأمومة في امرأة، ولا بنوة ودعوة في رجل.. لأن الأم مخدومة مخفوض لها الجناح، والزوجة ليست كذلك.
ولأن البنوة أصالة في النسب وعراقة فيه، والدعوة: إلصاق عارض بالتسمية لا غير.
فإن قلت: أى فائدة في ذكر الجوف؟ قلت: الفائدة فيه كالفائدة في قوله- تعالى-:
وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ وذلك ما يحصل للسامع من زيادة التصور والتجلي للمدلول عليه، لأنه إذا سمع به، صور لنفسه جوفا يشتمل على قلبين فكان أسرع إلى الإنكار .
وقوله- سبحانه-: وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ إبطال لما كان سائدا من أن الرجل كان إذا قال لزوجته أنت على كظهر أمى حرمت عليه.
يقال. ظاهر فلان من امرأته وتظهر وظهر منها، إذا قال لها: أنت على كظهر أمى، يريد أنها محرمة عليه كحرمة أمه.
وقد جاء الكلام عن الظهار، وعن حكمه، وعن كفارته، في سورة المجادلة، في قوله- تعالى-: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها، وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ، وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما، إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ. الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ، إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ، وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً، وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ.
وقوله- سبحانه-: وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ إبطال لعادة أخرى كانت موجودة، وهي عادة التبني.
والأدعياء: جمع دعى. وهو الولد الذي يدعى ابنا لغير أبيه وكان الرجل يتبنى ولد غيره، ويجرى عليه أحكام البنوة النسبية، ومنها حرمة زواج الأب بزوجة ابنه بالتبني بعد طلاقها، ومنها التوارث فيما بينهما.
قال ابن كثير: وقوله: وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ هذا هو المقصود بالنفي، فإنها نزلت في شأن زيد بن حارثة، مولى النبي صلّى الله عليه وسلم، فقد كان صلّى الله عليه وسلّم قد تبناه قبل النبوة، وكان يقال له زيد بن محمد. فأراد الله- تعالى- أن يقطع هذا الإلحاق، وهذه النسبة بقوله: وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ، كما قال في أثناء السورة: ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ .
واسم الإشارة في قوله: ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ يعود إلى ما سبق ذكره من التلفظ بالظهار، ومن إجراء التبني على ولد الغير، وهو مبتدأ، وما بعده خبر.
أى: ذلكم الذي تزعمونه من تشبيه الزوجة بالأم في التحريم، ومن نسبة الأبناء إلى غير آبائهم الشرعيين، هو مجرد قول باللسان لا يؤيده الواقع، ولا يسانده الحق.
قال ابن جرير: وقوله: ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ يقول- تعالى ذكره- هذا القول، وهو قول الرجل لامرأته: أنت على كظهر أمى، ودعاؤه من ليس بابنه أنه ابنه، إنما هو قولكم بأفواهكم، لا حقيقة له، ولا يثبت بهذه الدعوى نسب الذي ادعيت بنوته، ولا تصير الزوجة أما بقول الرجل لها: أنت على كظهر أمى.
ثم ختم- سبحانه- الآية الكريمة بقوله: وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ أى:
والله- تعالى- يقول الحق الثابت الذي لا يحوم حوله باطل، وهو- سبحانه- دون غيره يهدى ويرشد إلى السبيل القويم الذي يوصل إلى الخير والصلاح. وما دام الأمر كذلك فاتركوا عاداتكم وتقاليدكم التي ألفتموها. والتي أبطلها الله- تعالى- بحكمته، واتبعوا ما يأمركم به- سبحانه-.