الوسيط للطنطاوي
تفسير الآية رقم 40 من سورة الفرقان
ثم وبخ- سبحانه- مشركي مكة على عدم اعتبارهم واتعاظهم بما يرون من آثار فقال- تعالى-: وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ، أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها، بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً.
والمراد بالقرية هنا: قرية سدوم التي هي أكبر قرى قوم لوط، والتي جعل الله- تعالى- عاليها سافلها. والمراد بما أمطرت به: الحجارة التي أنزلها الله- تعالى- عليها، كما قال- تعالى-: فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ .
والسوء- بفتح السين وتشديدها- مصدر ساءه. أى: فعل به ما يكره. والسوء- بالضم والتشديد- اسم منه.
والاستفهام في قوله- تعالى-: أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها للتقريع والتوبيخ على عدم الاعتبار بما يرونه من أمور تدعو كل عاقل إلى التدبر والتفكر والاتعاظ.
أى: أقسم لك- أيها الرسول الكريم- أن هؤلاء المشركين الذين اتخذوا القرآن مهجورا، كانوا وما زالوا يمرون مصبحين وبالليل على قرية قوم لوط، التي دمرناها تدميرا، بسبب فسوق أهلها وفجورهم، وكانوا يرون ما حل بها من خراب..
ولكنهم لكفرهم بك والبعث والحساب، لم يتأثروا بما رأوا، ولم يعتبروا بما شاهدوا، وسيندمون يوم القيامة على كفرهم ولكن لن ينفعهم الندم.
وصدر- سبحانه- الآية الكريمة بلام القسم وقد، لتأكيد رؤيتهم لتلك القرية التي أمطرت مطر السوء.
والمراد برؤيتها، رؤية ما حل بها من خراب ودمار كما قال- تعالى-: وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ.
وقوله- سبحانه-: بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً بيان للسبب الذي جعلهم لا يعتبرون ولا يتعظون.
أى: أنهم كانوا يرون عاقبة أهل تلك القرية التي جعلنا عاليها سافلها، ولكن تكذيبهم بالبعث والنشور، والثواب والعقاب يوم القيامة، حال بينهم وبين الاعتبار والاتعاظ والإيمان بالحق، وجعلهم يمرون بما يدعو إلى التدبر والتفكر، ولكنهم لعدم توقعهم للقاء الله، ولعدم إيمانهم بالجزاء يوم القيامة قست قلوبهم وانطمست بصائرهم، وصاروا كما قال- تعالى-:
وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ .
وبعد هذا العرض لأحوال بعض الأمم الماضية، عادت السورة الكريمة إلى بيان ما كان المشركون يقولونه عند رؤيتهم للنبي صلّى الله عليه وسلّم وإلى بيان سوء عاقبتهم، وفرط جهالاتهم، قال- تعالى-: