الوسيط للطنطاوي
تفسير الآية رقم 78 من سورة الحج
وبعد أن أمر- سبحانه- بالصلاة وبالعبادة وبفعل الخير، أتبع ذلك بالأمر بالجهاد فقال- تعالى-: وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ.
والجهاد مأخوذ من الجهد، وهو بذل أقصى الطاقة في مدافعة العدو.
وهي أنواع، أعظمها: جهاد أعداء الله- تعالى- من الكفار والمنافقين والظالمين والمبتدعين في دين الله- تعالى- ما ليس منه.
كذلك من أنواع الجهاد: جهاد النفس الأمارة بالسوء، وجهاد الشيطان.
وإضافة «حق» إلى «جهاد» في قوله: حَقَّ جِهادِهِ من إضافة الصفة الى الموصوف أى: وجاهدوا- أيها المؤمنون- في سبيل الله- تعالى- ومن أجل إعلاء كلمته، ونصر شريعته، جهادا كاملا صادقا لا تردد معه ولا تراجع.
قال صاحب الكشاف: قوله: وَجاهِدُوا ... أمر بالغزو وبمجاهدة النفس والهوى.
وهو الجهاد الأكبر. عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه رجع من بعض غزواته فقال: «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر» فِي اللَّهِ أى: في ذات الله ومن أجله. يقال: هو حق عالم، وجد عالم، ومنه حَقَّ جِهادِهِ.
فإن قلت: ما وجه هذه الإضافة وكان القياس حق الجهاد فيه، أو حق جهادكم فيه، كما قال: وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ؟.
قلت: الإضافة تكون بأدنى ملابسة واختصاص. فلما كان الجهاد مختصا بالله من حيث إنه مفعول لوجهه ومن أجله صحت إضافته إليه.. .
وجملة «هو اجتباكم» مستأنفة، لبيان علة الأمر بالجهاد، والاجتباء: الاختيار والاصطفاء.
أى: جاهدوا- أيها المؤمنون- من أجل إعلاء كلمة الله، لأنه- سبحانه- هو الذي اختاركم للذب عن دينه، واصطفاكم لحرب أعدائه، وجدير بمن اختاره الله واصطفاه أن يكون مطيعا له.
ثم بين- سبحانه- بعض مظاهر لطفه بعباده فقال: وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ.
أى: ومن مظاهر رحمته بكم- أيها المؤمنون- أنه سبحانه لم يشرع في هذا الدين الذي تدينون به ما فيه مشقة بكم، أو ضيق عليكم: وإنما جعل أمر هذا الدين، مبنى على اليسر والتخفيف ورفع الحرج، ومن قواعده التي تدل على ذلك: أن الضرر يزال. وأن المشقة تجلب التيسير: وأن اليقين لا يرفع بالشك، وأن الأمور تتبع مقاصدها، وأن التوبة الصادقة النصوح تجب ما قبلها من ذنوب.
ومن الآيات التي تدل على أن هذا الدين مبنى على التيسير ورفع الحرج قوله- تعالى-:
لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها ... وقوله- سبحانه-: ... يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ...
وفي الحديث الشريف: «بعثت بالحنيفية السمحاء» .
قال بعض العلماء: وأنت خبير بأن هناك فرقا كبيرا، بين المشقة في الأحكام الشرعية، وبين الحرج والعسر فيها، فإن الأولى حاصلة وقلما يخلو منها تكليف شرعي، إذ التكليف هو التزام ما فيه كلفة ومشقة، أما المشقة الزائدة عن الحد التي تصل إلى حد الحرج، فهي المرفوعة عن المكلفين.
فقد فرض الله الصلاة على المكلف، وأوجب عليه أداءها، وهذا شيء لا حرج فيه. ثم هو إذا لم يستطيع الصلاة من قيام، فله أن يؤديها وهو قاعد أو بالإيماء.. وهكذا جميع التكاليف الشرعية .
والخلاصة: أن هذا الدين الذي جاءنا به محمد صلّى الله عليه وسلّم من عند ربه- عز وجل- مبنى على التخفيف والتيسير، لا على الضيق والحرج، والذين يجدون فيه ضيقا وحرجا، هم الناكبون عن هديه، الخارجون على تعاليمه.
ورحم الله الإمام القرطبي فقد قال: «رفع الحرج إنما هو لمن استقام على منهاج الشرع، وأما السراق وأصحاب الحدود فعليهم الحرج، وهم جاعلوه على أنفسهم بمفارقتهم الدين..» .
والمراد بالملة في قوله- تعالى-: مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ الدين والشريعة، ولفظ «ملة» هنا منصوب بنزع الخافض.
أى: ما جعل عليكم- أيها المؤمنون- في دينكم من حرج، كما لم يجعل ذلك- أيضا- في ملة أبيكم إبراهيم.
ويصح أن يكون منصوبا على المصدرية بفعل دل عليه ما قبله من نفى الحرج بعد حذف المصدر المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه. أى: وسع عليكم في دينكم توسعة ملة أبيكم إبراهيم.
ووصف- سبحانه- إبراهيم- عليه السلام- بالأبوة لهذه الأمة، لأن رسول هذه الأمة صلّى الله عليه وسلّم ينتهى نسبه إلى إبراهيم، ورسول هذه الأمة صلّى الله عليه وسلّم كالأب لها، من حيث إنه صلّى الله عليه وسلّم جاءها من عند ربه- عز وجل- بما يحييها ويسعدها.
والضمير «هو» في قوله- تعالى-: هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا.. يعود إلى الله- تعالى- أى: هو- سبحانه- الذي سماكم المسلمين من قبل نزول هذا القرآن.
وسماكم- أيضا- بهذا الإسلام في هذا القرآن.
وقيل: الضمير «هو» يعود إلى إبراهيم أى: إبراهيم هو الذي سماكم المسلمين.
ومن وجوه ضعف هذا القول: أن الله- تعالى- قال: وَفِي هذا أى سماكم المسلمين.
في هذا القرآن، وإبراهيم- عليه السلام- لحق بربه قبل نزول هذا القرآن بأزمان طويلة، وأيضا فإن السياق يؤيد أن الضمير «هو» يعود إلى الله- تعالى- لأن الأفعال السابقة كقوله هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ تعود إليه- عز وجل-.
ثم بين- سبحانه- أسباب هذا الاجتباء والاصطفاء فقال: لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ.
والمراد بشهادة الرسول على أمته: الإخبار بأنه قد بلغهم رسالة ربه.
والمراد بشهادة هذه الأمة على غيرها من الناس: الإخبار بأن الرسل الذين أرسلهم الله- تعالى- إلى هؤلاء الناس، قد بلغوهم رسالة ربهم، ونصحوهم بإخلاص العبادة لله وحده.
ويؤيد ذلك ما رواه البخاري عن أبى سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
يدعى نوح- عليه السلام- يوم القيامة فيقول: لبيك وسعديك يا رب. فيقال له: هل بلغت ما أرسلت به؟ فيقول: نعم. فيقال لأمته: هل بلغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير. فيقال له: من يشهد لك؟ فيقول: محمد صلّى الله عليه وسلّم وأمته، فيشهدون أنه قد بلغ» .
وشبيه بهذه الجملة قوله- تعالى-: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً .
والمعنى: فعلنا ما فعلنا من اجتبائكم، والتيسير عليكم، وتسميتكم بالمسلمين، ليكون الرسول صلّى الله عليه وسلّم شهيدا عليكم يوم القيامة بأنه قد بلغكم ما أمر بتبليغه إليكم، ولتكونوا أنتم شهداء على الناس بأن رسلهم قد بلغوهم رسالة ربهم.
وما دام الأمر كذلك فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ أيها المؤمنون بأن تؤدوها في أوقاتها بإخلاص وخشوع وَآتُوا الزَّكاةَ التي كلفكم الله- تعالى- بإيتائها إلى مستحقيها وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ أى: التجئوا إليه، واستعينوا به في كل أموركم فإنه- سبحانه- هُوَ مَوْلاكُمْ أى: ناصركم ومتولى شئونكم، ومالك أمركم، وهو- تعالى- فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ أى: هو- عز وجل- نعم المالك لأمركم، ونعم النصير القوى لشأنكم.
وبعد: فهذه سورة الحج، وهذا تفسير محرر لها.
نسأل الله- تعالى- أن يجعله خالصا لوجهه، ونافعا لعباده.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.