الوسيط للطنطاوي
تفسير الآية رقم 269 من سورة البقرة
ثم قال- تعالى-: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ، وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً.
قال الإمام الرازي: «اعلم أنه- تعالى- لما ذكر في الآية المتقدمة أن الشيطان يعد بالفقر ويأمر بالفحشاء، وأن الرحمن يعد بالمغفرة والفضل نبه على أن الأمر الذي أوجب لأجله ترجيح وعد الرحمن على وعد الشيطان هو أن وعد الرحمن ترجحه الحكمة والعقل ووعد الشيطان ترجحه الشهوة والنفس من حيث إنهما يأمران بتحصيل اللذة الحاضرة واتباع أحكام الخيال والوهم.
ولا شك أن حكم الحكمة والعقل هو الحكم الصادق المبرأ عن الزيغ والخلل، وحكم الشهوة والنفس يوقع الإنسان في البلاء، فكان حكم الحكمة والعقل أولى بالقبول، فهذا هو وجه النظم» .
والْحِكْمَةَ مشتقة من حكم بمعنى منع، لأنها تمنع صاحبها من الوقوع في الخطأ والضلال ومنه سميت الحديدة التي في اللجام وتجعل في فم الفرس حكمة لأنها تمنعه من الجموح. أو هي في الأصل مصدر من الإحكام وهو الإتقان في علم أو عمل أو قول أو فيها كلها.
والحكمة بالنسبة للإنسان صفة نفسية هي أساس المعرفة السليمة التي توافق الحق، وتوجه الإنسان نحو عمل الخير، وتمنعه من عمل الشر، فهي فيه مانعة ضابطة تسير به نحو الكمال والاستقامة وللعلماء في المراد بها في الآية الكريمة أقوال كثيرة أرجحها أن المراد بها إصابة الحق في القول والعمل، أو هي العلم النافع الذي يكون معه العمل به.
والمعنى: أن الله- تعالى- الفاعل لكل شيء يؤت الحكمة لمن يشاء من عباده وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً لأن الإنسان إذا أوتى الحكمة يكون قد اهتدى إلى العلم النافع، وإلى العمل الصالح الموافق لما علمه، وإلى الإيمان بالحق وإلى الاستجابة لكل خير والابتعاد عن كل شر، وبذلك يكون سعيدا في دنياه وأخراه.
وفي الصحيحين عن ابن مسعود أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا حسد- أى لا غبطة- إلا في اثنتين: رجل أتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله- تعالى- الحكمة فهو يقضى بها ويعلمها» .
ثم قال- تعالى-: وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ.
والألباب جمع لب وهو في الأصل خلاصة الشيء وقلبه، وأطلق هنا على عقل الإنسان لأنه أنفع شيء فيه.
والمراد بأولى الألباب هنا أصحاب العقول السليمة التي تخلصت من شوائب الهوى، ودوافع الشر، فقد جرت عادة القرآن ألا يستعمل هذا التعبير إلا مع أصحاب العقول المستقيمة.
أى: وما يتعظ بهذه التوجيهات القرآنية، وينتفع بثمارها إلا أصحاب العقول الراجحة والنفوس الصافية التي اهتدت إلى الحق وعملت به، والتي أنفقت في سبيل الله أجود الأموال وأطيبها لا أصحاب العقول الفاسدة التي استحوذ عليها الشيطان فأنساها ذكر الله، والتي ترى أن البخل بالمال هو الحكمة، وأن الإنفاق في سبيل الله هو نوع من الإسراف والتبذير.
فالجملة الكريمة تذييل قصد به مدح أولئك المؤمنين الصادقين، الذين استجابوا لتوجيهات دينهم، فأصابوا الحق في أقوالهم وأعمالهم.
ثم بين- سبحانه- أنه عليم بما ينفقه المنفقون من صدقات سواء أكانت سرا أو جهرا وسيجازيهم عليها بما يستحقون من ثواب فقال- تعالى-: