الوسيط للطنطاوي
تفسير الآية رقم 222 من سورة البقرة
روى الإمام مسلّم في صحيحه عن أنس بن مالك- رضي الله عنه- أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم لم يؤاكلوها ولم يجامعوها في البيوت أى لا يسكنون معهن- فسأل الصحابة النبي صلّى الله عليه وسلّم فأنزل الله- تعالى-: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً. الآية فقال رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- اصنعوا كل شيء إلا النكاح. فبلغ ذلك اليهود فقالوا: ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئا إلا خالفنا فيه. فجاء أسيد بن حضير وعباد بن بشر فقالا: يا رسول الله، إن اليهود تقول كذا وكذا، أفلا نجامعهن؟ فتغير وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى ظنا أن قد وجد عليهما- أى غضب- فاستقبلتهما هدية من لبن إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فأرسل في آثارهما فسقاهما، فعرفا أن لم يجد عليهما.
والمحيض: الحيض مصدر حاضت المرأة تحيض حيضا ومحاضا ومحيضا فهي حائض، وأصله السيلان. يقال حاض الوادي إذا سال، ومنه الحوض لسيلان الماء إليه.
ثم أطلق الحيض على ما يقذفه رحم المرأة من دم في أوقات مخصوصة على وجه مخصوص.
والأذى: الشيء الذي يتأذى منه الإنسان ويصيبه الضرر بسببه.
والسؤال كان من بعض الصحابة، لأنه لقوة إيمانهم كانوا يحبون أن يعرفوا حكم الإسلام في شئونهم الخاصة والعامة، ولأنهم وجدوا أن اليهود وغيرهم يعاملون المرأة في حال حيضها معاملة غير كريمة فسألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن هذا الأمر الذي يتصل بأدق العلاقات بين الرجل والمرأة وهو حكم مباشرة النساء في حال الحيض، فأجابهم الله- تعالى- جوابا شافيا.
والمعنى: ويسألك أصحابك يا محمد عن حكم مباشرة النساء في حال الحيض فقل لهم معلما وموجها: إن الحيض أى الدم الذي يلفظه رحم المرأة في وقت معين أذى يتأذى به الإنسان تأذيا حسيا جسيما، فرائحته يتأذى منها من يشمها، وهو في ذاته شيء متقذر تعافه النفوس، وتنفر منه الطباع.
وقوله: فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ بيان للحكم المتفرع على تلك الحالة التي يتأذى منها وهي حالة الحيض.
والاعتزال: التباعد، وهو هنا كناية عن ترك الجماع والمباشرة، كما أن النهى عن قربهن كناية عن النهى عن جماعهن، يقال: قرب الرجل امرأته إذا جامعها.
ويَطْهُرْنَ من الطهر- بضم الطاء- بمعنى النقاء من الوسخ والقذر-.
والمعنى: عليكم أيها المؤمنون أن تمتنعوا عن مباشرة النساء في زمن حيضهن، ولا تجامعوهن حتى يطهرن من ذلك، لأن غشيانهن في هذه الحالة يؤذيكم بسبب عدم نقاء المحل الذي يكون فيه الغشيان للمرأة، والمرأة أيضا تتأذى من مباشرتها في زمن الحيض لأنها لا تكون في حالة تستسيغ معها المباشرة، فجهازها التناسلى في حالة اضطراب، وهيئتها العامة في حالة تجعلها من شأنها أن تنفر من الجماع، والولد الذي يأتى عن طريق الجماع في حالة الحيض- على فرض إتيانه في هذه الحالة- كثيرا ما يأتى مشوها ضعيفا، لأن النطفة إذا اختلطت بدم الحيض، أخذت البويضات في التخلق قبل وقت صلاحيتها للتخلق النافع الذي يكون وقته بعد انتهاء فترة الحيض وقد قال بذلك الأطباء الثقاة . وعرفه العرب القدامى بالتجربة، قال أبو كبير الهذلى.
ومبرأ من كل غبّر حيضة ... وفساد مرضعة وداء معضل
وقد أجمع العلماء- كما بينا- على أن المراد بالاعتزال هو اجتناب المباشرة، إلا أنهم اختلفوا فيما يجب اعتزاله من المرأة بعد ذلك.
فبعضهم يرى اعتزال جميع بدن المرأة، وحجتهم أن الله أمر باعتزال النساء ولم يخصص من ذلك شيئا دون شيء.
وبعضهم يرى اعتزال موضع الأذى- أى مكان خروج الدم- لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم «اصنعوا كل شيء إلا النكاح» .
وبعضهم يرى اعتزال ما بين السرة إلى الركبة من المرأة وله ما سوى ذلك، لقول عائشة:
كانت إحدانا إذا كانت حائضة أمرها النبي صلّى الله عليه وسلّم أن تأتزر ثم يباشرها. وقوله: وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ تأكيد لحكم الاعتزال وتقرير له، وتنبيه على أن المراد به عدم جماعهن لا عدم القرب منهن أو مخالطتهن أو الأكل معهن كما كان يفعل اليهود وبعض العرب.
والدليل على ذلك ما جاء في الصحيحين عن عائشة- رضي الله عنها- قالت: «كنت أرجل رأس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأنا حائض» .
وروى البخاري عن عائشة- أيضا- قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يتكئ في حجري وأنا حائض ثم يقرأ القرآن.
وروى مسلّم عنها أيضا قالت: كنت أشرب وأنا حائض، ثم أناوله النبي صلّى الله عليه وسلّم فيضع فاه على موضع فىّ فيشرب.
وقوله: حَتَّى يَطْهُرْنَ بيان لغاية الاعتزال. وقرأ حمزة الكسائي حَتَّى يَطْهُرْنَ بفتح الطاء والهاء مع التشديد.
ومعناه عند جمهور الفقهاء ولا تجامعوهن حتى يغتسلن، لأن القراءتين معناهما واحد، ولأن الله- تعالى- قد علق الإتيان على التطهر فقال: فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ والتطهر هو الاغتسال. فالمرأة إذا انقطع حيضها لا يحل للزوج مجامعتها إلا بعد الاغتسال.
ويرى الأحناف أن معنى حَتَّى يَطْهُرْنَ أى حتى ينقطع الدم، لأنه إذا كان سبب الأذى هو الدم فانقطاعه طهور منه، وبناء على ذلك فيجوز للرجل أن يباشر زوجته قبل أن تغتسل متى انقطع دمها لأقصى مدة الحيض، وهو عشرة أيام. أخذا بالقراءة المشهورة يَطْهُرْنَ بالتخفيف. أما إذا انقطع الدم قبل ذلك فلا تحل مباشرتها إلا بالتأكيد من زوال الدم بعمل من جانبها وهو الاغتسال الفعلى، لأن قراءة يَطْهُرْنَ بالتشديد عندهم معناها يغتسلن.
وقال بعض الفقهاء يكفى في حلها أن تتوضأ عند انقطاع الدم.
ولكل فريق أدلته المبسوطة في كتب الفقه.
وفي هاتين الجملتين الكريمتين فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ من سمو التعبير، وبديع الكناية ما يغرس في نفس السامع حسن الأدب، ويصون سمعه عن الألفاظ التي يجافى سماعها الأذواق السليمة، وما أحوج المسلمين إلى التأسى بهذا الأدب الذي يحفظ عليهم مروءتهم وكرامتهم.
ثم قال- تعالى-: فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ أى: فإذا تطهرن من المحيض فجامعوهن في المكان الذي أمركم الله بتجنبه في الحيض وهو القبل ولا تتعدوه إلى غيره.
والأمر في قوله- تعالى-: فَأْتُوهُنَّ المراد به إباحة المباشرة، لأن من المقرر عند العلماء أن الأمر بعد النهى يكون للإباحة، خصوصا إذا كان الموضع موضع حل وإباحة لا موضع تكليف وإلزام، وليس المراد به الحتم واللزوم، لأن الإتيان مبنى على الرغبة والطاقة وشبه بهذا التعبير قوله- تعالى-: فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وقوله: وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا.
قال الجمل: ومن في قوله: «من حيث» فيها قولان:أحدهما: أنها لابتداء الغاية، أى من الجهة التي تنتهي إلى موضع الحيض.
والثاني: أن تكون بمعنى في أى المكان الذي نهيتم عنه في الحيض. ورجح بعضهم هذا بأنه ملائم لقوله فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ .
وعلى كلا القولين فالمقصود أن يأتى الرجل زوجته في المكان الفطري الطبيعي لتلك العلاقة الجنسية، وهو القبل إذ هو مكان البذر والإنسال، ولا يخرج عن ذلك إلا الذين أصيبوا بشذوذ في عقولهم، وضعف في دينهم..
ثم ختم- سبحانه- الآية بقوله: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ والتواب صيغة مبالغة من تائب بمعنى راجع إلى ربه إذا زل وهفا.
والمتطهر: هو الإنسان المتنزه عن الفواحش والأقذار.
أى: إن الله- تعالى- يحب عباده الذين يكثرون الرجوع إليه إذا ما ظلموا أنفسهم بسيئة من السيئات، والذين يصونون أنفسهم وينزهونها عن المعاصي والآثام، ويرضى عنهم في الدنيا والآخرة.
قال الآلوسى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ مما عسى يبدر منهم من ارتكاب بعض الذنوب كالإتيان في الحيض المستدعى لعقاب الله- تعالى- فقد أخرج الإمام أحمد والترمذي والنسائي عن أبى هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من أتى حائضا فقد كفر بما أنزل على محمد صلّى الله عليه وسلّم وهو جار مجرى الترهيب فلا يعارض ما أخرجه الطبراني عن ابن عباس قال: جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله، أصبت امرأتى وهي حائض فأمره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يعتق نسمة» وهذا إذا كان الإتيان في أول الحيض والدم أحمر، أما إذا كان في آخره والدم أصفر فينبغي أن يتصدق بنصف دينار كما دلت عليه الآثار» .