الوسيط للطنطاوي
تفسير الآية رقم 183 من سورة البقرة
وبعد أن تحدثت السورة الكريمة عن القصاص وعن الوصية أتبعتها بالحديث عن عبادة عظيمة من العبادات التي جعلها الله - تعالى - ركناً من أركان الإِسلام وهي صوم رمضان ، فقال - سبحانه - :
( ياأيها الذين آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام . . . )
الصيام مصدر صام كالقيام مصدر قام ، وهو في اللغة : الإِمساك وترك التنقل من حال إلى حال ، فيقال للصمت صوم لأنه إمساك عن الكلام ومنه قوله - تعالى - مخبراً عن مريم : ( إِنِّي نَذَرْتُ للرحمن صَوْماً ) أي : سكوتاً عن الكلام . وصوم الريح ركودها وإمساكها عن الهبوب وتقول العرب : صام النهار وصامت الشمس عند قيام الظهيرة لأنها كالممسكة عن الحركة .
أما الصيام في عرف الشرع فهو - كما يقول الآلوسي - إمساك عن أشياء مخصوصة على وجه مخصوص في زمان مخصوص ممن هو على صفات مخصوصة .
وقد فرض الله - تعالى - على المسلمين صيام شهر رمضان في شهر شعبان من السنة الثانية للهجرة وعده النبي صلى الله عليه وسلم أحد أركان الإِسلام الخمسة ، فقد روى البخاري - بسنده - عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " بني الإِسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، وحج البيت ، وصوم رمضان " .
وأل في الصيام للعهد الذهني ، فقد كان العرب يعرفون الصوم ، فقد جاء في الصحيحين عن عائشة قالت : " كان يوم عاشوراء يوماً تصومه قريش والجاهلية " .
والتشبيه في قوله - تعالى - : ( كَمَا كُتِبَ عَلَى الذين مِن قَبْلِكُمْ ) راجع إلى أصل إيجاب الصوم وفريضته . أي : أن عبادة الصوم كانت مكتوبة ومفروضة على الأمم السابقة ، ولكن بكيفية لا يعلمها إلا الله ، إذ لم يرد نص صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يبين لنا فيه كيف كان صيام الأمم السابقة على الأمة الإسلامية .
وقيل إن التشبيه راجع إلى وقت الصوم وقدره ، فقد روى عن مجاهد أنه قال : كتب الله - عز وجل - صوم شهر رمضان على كل أمة .
ولفظ " كما " في قوله - تعالى - : ( كَمَا كُتِبَ عَلَى الذين مِن قَبْلِكُمْ ) في موضع نصب على المصدر ، أي : فرض عليكم الصيام فرضاً كالذي فرض على الذين من قبلكم .
ومن فوائد هذا التشبيه ، الاهتمام بهذه العبادة والتنويه بشأنها إذ شرعها - سبحانه - لأتباع النبي صلى الله عليه وسلم ولأتباع الرسل الذين سبقوه في الدعوة إلى توحيد الله ، وهذا مما يقتضي وفرة ثوابها ، وداوم صلاحها .
كذلك من فوائد تسهيل هذه العبادة على المسلمين؛ لأن الشيء الشاق تخف مشقته على الإِنسان عند ما يعلم أن غيره قد أداه من قبله .
والفائدة الثالثة من هذا التشبيه إثارة العزائم والهمم للنهوض بهذه العبادة ، حتى لا يكونوا مقصرين في أدائها ، بل يجب عليهم أن يؤدوها بقوة تفوق من سبقهم لأن الأمة الإِسلامية قد وصفها سبحانه بأنها خير أمة أخرجت للناس وهذه الخيرية تقتضي منهم النشاط فيما كلفهم الله بأدائه من عبادات .
وقوله : ( لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) جملة تعليلة جيء بها لبيان حكمة مشروعية الصيام فكأنه - سبحانه - يقول لعباده المؤمنين : فرضنا عليكم الصيام كما فرضناه على الذين من قبلكم ، لعلكم بأدائكم لهذه الفريضة تنالون درجة التقوى والخشية من الله ، وبذلك تكونون ممن رضى الله عنهم ورضوا عنه . ولا شك أن هذه الفريضة ترتفع بصاحبها إلى أعلى عليين متى أداها بآدابها وشروطها ، ويكفى أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد قال في شأن الصوم : " الصوم جنة " أي : وقاية . إذ في الصوم وقاية من الوقوع في المعاصي ، ووقاية من عذاب الآخرة ، ووقاية من العلل والأمراض الناشئة عن الإِفراط في تناول بعض الأطعمة والأشربة .
وقوله : ( أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ ) أي : معينات بالعد أو قليلات ، لأن القليل يسهل عده فيعد والكثير يؤخذ جزافاً .
والمراد بهذه الأيام المعدودات شهر رمضان عند جمهور العلماء .
قالوا : وتقريره أنه - سبحانه - قال أولا ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام ) وهذا محتمل ليوم ويومين ثم بينه بقوله : ( أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ ) فزال بعض الاحتمال ثم بينه بقوله : ( شَهْرُ رَمَضَانَ الذي أُنْزِلَ فِيهِ القرآن ) فعلى هذا الترتيب يمكن جعل الأيام المعدودات بعينها شهر رمضان ، وإذا أمكن ذلك فلا وجه لحمله على غيره .
وإنما عبر عن رمضان بأيام وهي جمع قلة ووصف بمعدودات وهي جمع قلة - أيضاً - تهوينا لأمره على المكلفين ، وإشعاراً لهم بأن الله - تعالى - ما فرض عليهم إلا ما هو في وسعهم وقدرتهم .
وقيل : إن المراد بالأيام المعدودات غير رمضان ، وذكروا أن المراد بها ثلاثة أيام من كل شهر وهي الأيام البيض الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر مضافاً إليها يوم عاشوراء . ثم نسخ ذلك بوجوب صوم شهر رمضان .
والمعتمد بين المحققين من العلماء هو القول الأول ، لأنه - كما قال الإِمام الرازي - لا وجه لحمله على غيره ، والقول بالنسخ زيادة لا دليل عليها .