الوسيط للطنطاوي
تفسير الآية رقم 118 من سورة البقرة
عن ابن عباس قال: قال رافع بن حريملة اليهودي لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم يا محمد، إن كنت رسولا من الله كما تقول، فقل لله يكلمنا حتى نسمع كلامه فأنزل الله هذه الآية.
فالآية الكريمة معطوفة على قوله: وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً ...
ومعنى الآية الكريمة. وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ علما نافعا أمثال هؤلاء اليهود الذين طالبوك بالمطالب المتعنتة- يا محمد- لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ إما مشافهة، أو بواسطة الوحى إلينا لا إليك، أو يرينا حجة تقوم على صدق رسالتك، قالوا هذا على وجه العناد والجحود أن تكون الآيات التي أقامها الله على صدق رسالته آيات حقا.
وقد رد الله تعالى عليهم بقوله: كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ أى: مثل هذا القول المتعنت، قال الجاحدون من أسلافهم الذين أرسل الله إليهم الرسل ليخرجوهم من الظلمات إلى النور وفي هذه الجملة تسلية للرسول صلّى الله عليه وسلّم بأن ما لاقاه من قومه مثل ما لقيه الرسل من قبله.
تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ أى تشابهت قلوب هؤلاء وأولئك في العناد والضلال.
قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ أى: جعلناها بينة واضحة في ذاتها لمن شأنهم الإخلاص في طلب الحق أينما كان، فيتجهون إليه عن طريق الأدلة الصحيحة بقلوب نقية من الأهواء موقنة بجلال الحق ووجوب الطاعة.
قال الإمام الرازي: وتقرير شبهتهم أن الحكيم إذا أراد تحصيل شيء، اختار أقرب الطرق إليه، وبما أن الله قد كلم موسى وكلمك يا محمد فلم لا يكلمنا مشافهة، أو يخصك بمعجزة يتجلى من ورائها صدق نبوتك، وهذا منهم طعن في أن القرآن معجزة، لأنهم لو أقروا بذلك لاستحال أن يقولوا ما قالوه.
فأجابهم الله عن هذه الشبهة بقوله كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ وحاصل هذا الجواب: أنا قد أيدنا قول محمد بالمعجزات، وبينا صحة قوله بالقرآن وسائر الحجج، فكان طلب هذه الزوائد من باب التعنت. وعليه فلن تجاب مطالبكم لوجوه منها:
1- لو كان في معلوم الله أنهم يؤمنون عند إنزال هذه الآيات لفعلها ولكنه علم أنه لو أعطاهم ما سألوه لازدادوا لجاجا.
2- أن حصول الدلالة الواحدة تمكن المكلف من الوصول إلى المطلوب، فإذا لم يكتف بها، كان طلبه من باب المعاندة.
3- ربما كانت كثرة المعجزات وتعاقبها تقدح في كونها معجزة لأن الخوارق متى توالت كان انخراق العادة عادة. فثبت أن عدم إسعافهم بهذه الآيات لا يقدح في النبوة .
هذا، وبعض المفسرين يرى أن المراد «بالذين لا يعلمون» اليهود، وبعضهم يرى أن المراد بهم مشركو العرب وبعضهم يرى أن المراد بهم النصارى، ونحن نرى أن اللفظ صالح لأن يندرج تحته جميع هذه الطوائف قضاء لحق الموصول المفيد للتعميم، ولكنا نختار أن اليهود هم المقصودون قصدا أوليا من هذه الآية للأسباب الآتية:
1- الآية ضمن سلسلة طويلة من الآيات السابقة عليها واللاحقة لها، وكلها تتحدث عن بنى إسرائيل وأحوالهم وأخلاقهم.
2- جملة كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ قرينة على أن المقصود بالذين لا يعلمون هم اليهود المعاصرون للعهد النبوي، حيث كان أجدادهم يطلبون من موسى مثل هذه المطالب، لقد قالوا له: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً وقالوا: أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً وطلبوا منه كثيرا من المطالب المتعنتة.
3- الآية مدنية ومن سورة البقرة التي هي من أوائل ما نزل على الرسول صلّى الله عليه وسلّم بالمدينة، ومن المعروف أن حديث القرآن المدني عن أهل الكتاب بصفة عامة، وعن اليهود بصفة خاصة، أكثر من حديثه عن مشركي العرب، لأن البيئة المدنية صلتها بأهل الكتاب أشد وألصق.
4- سبب نزول الآية الذي ذكرناه يؤيد أن اليهود مقصودون قصدا أوليا في هذه الآية.
5- القائلون بأن المراد بالذين لا يعلمون مشركو العرب، دعموا قولهم بأن آيات القرآن التي تحكى عنهم أمثال هذه المقترحات مستفيضة. وكأنهم يستبعدون أن تصدر مثل هذه الأسئلة عن اليهود.
وردنا عليهم أن القرآن الكريم قد حكى عن اليهود أمثال هذه الأسئلة بدليل قوله تعالى:
يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً، فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً.
6- الإمام ابن جرير رجح أن المراد ب الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ النصارى، مستدلا بأن ذلك في سياق خبر الله عنهم، فالآية السابقة على هذه الآية تقول.
وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ، بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ والنصارى هم الذين قالوا ذلك.
وهذا الاستدلال لا نوافقه عليه لما يأتى:
(أ) لأن الآية ليست في سياق خبر الله عن النصارى، وإنما هي في سياق خبر الله عن اليهود، الذين زخرت سورة البقرة ببيان مواقفهم وحجاجهم وأخلاقهم في أكثر من مائة آية سابقة ولاحقة من هذه السورة.
(ب) ليس النصارى وحدهم هم الذين قالوا اتخذ الله ولدا وإنما اليهود أيضا قالوا ذلك، قال تعالى: وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ، وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ .
(ج) لم يأت الإمام ابن جرير بدليل واحد ينقض به رأى القائلين بأن المراد بالذين لا يعلمون اليهود، ولم يتعرض للنص الذي أورده ابن عباس في سبب نزول الآية بالتضعيف أو الإعلال، مع أنه انتقد رأى القائلين بأن المراد بهم مشركو العرب (بأنه قول لا برهان على حقيقته في ظاهر الكتاب) .
هذا وبعد تلك الأدلة على ما ذهبنا إليه نعود فنقول مرة أخرى: إننا لا نمانع في أن يكون المراد بالذين لا يعلمون جميع الطوائف المشركة ولكنا نرجح أن اليهود هم المقصودون قصدا أوليا مهما دخل غيرهم معهم في السياق، وإن الآية قد نزلت للرد على مطالبهم المتعنتة واقتراحاتهم التي لا خير من ورائها، ومحاولاتهم الطعن في نبوة النبي صلّى الله عليه وسلّم.