الوسيط للطنطاوي
تفسير الآية رقم 16 من سورة الإسراء
قال أبو حيان- رحمه الله-: لما ذكر- تعالى- في الآية السابقة، أنه لا يعذب أحدا حتى يبعث إليه رسولا، بين بعد ذلك علة إهلاكهم، وهي مخالفة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، والتمادي على الفساد- فقال، سبحانه-: وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها..
وقوله- سبحانه-: أَمَرْنا
من الأمر الذي هو ضد النهى، والمأمور به هو الإيمان والعمل الصالح، والشكر لله رب العالمين، وحذف لظهوره والعلم به.
وقوله مُتْرَفِيها
جمع مترف، وهو المتنعم الذي لا يمنع من تنعمه، بل يترك يفعل ما يشاء. يقال: ترف فلان- كفرح- أى: تنعم، وفلان أترفته النعمة، أى: أطغته وأبطرته لأنه لم يستعملها في وجوهها المشروعة.
والمراد بهم، أصحاب الجاه والغنى والسلطان، الذين أحاطت بهم النعم من كل جانب، ولكنهم استعملوها في الفسوق والعصيان، لا في الخير والإحسان.
والمعنى: وإذا قرب وقت إرادتنا إهلاك أهل قرية، أمرنا مترفيها، وأهل الغنى والسلطان فيها بالإيمان والعمل الصالح، والمداومة على طاعتنا وشكرنا، فلم يستجيبوا لأمرنا، بل فسقوا فيها، وعاثوا في الأرض فسادا.
وهذا الأمر إنما هو على لسان الرسول المبعوث إلى أهل تلك القرية، وعلى ألسنة المصلحين المتبعين لهذا الرسول والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر.
وقال- سبحانه-: وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً ...
مع أن الهلاك لأهلها، للإشارة إلى أن هذا الهلاك لن يصيب أهلها فقط، بل سيصيبهم ويصيب معهم مساكنهم وأموالهم وكل ما احتوته تلك القرية، بحيث تصير هي وسكانها أثرا بعد عين.
وخص مترفيها بالذكر مع أن الأمر بالطاعة للجميع، لأن هؤلاء المترفين هم الأئمة والقادة، فإذا ما استجابوا للأمر استجاب غيرهم تبعا لهم في معظم الأحيان، ولأنهم في أعم الأحوال هم الأسرع إلى ارتكاب ما نهى الله عنه، وإلى الانغماس في المتع والشهوات.
والحكمة من هذا الأمر، هو الإعذار والإنذار، والتخويف والوعيد.
كما قال- تعالى-: رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ.. .
وهذا التفسير للآية الكريمة، سار عليه جمهور المفسرين.
ولصاحب الكشاف رأى يخالف ذلك، فهو يرى أن الأمر في الآية الكريمة مجاز عن إمدادهم بالنعم الكثيرة التي أبطرتهم.
قال- رحمه الله-: قوله- تعالى-: وَإِذا أَرَدْنا
وإذا دنا وقت إهلاك قوم، ولم يبق من زمان إمهالهم إلا قليل أمرناهم فَفَسَقُوا
أى: أمرناهم بالفسق ففعلوا.
والأمر مجاز لأن حقيقة أمرهم بالفسق أن يقول لهم: افسقوا، وهذا لا يكون، فبقى أن يكون مجازا، ووجه المجاز أنه صب عليهم النعمة صبا، فجعلوها ذريعة إلى المعاصي واتباع الشهوات، فكأنهم مأمورون بذلك لتسبب إيلاء النعمة فيه، وإنما خولهم إياها ليشكروا ويعملوا فيها الخير، ويتمكنوا من الإحسان والبر، كما خلقهم أصحاء أقوياء، وأقدرهم على الخير والشر، وطلب منهم إيثار الطاعة، على المعصية، فآثروا الفسوق، فلما فسقوا حق عليهم القول وهو كلمة العذاب فدمرهم.. .
ومن المفسرين من يرى أن قوله- تعالى-: أَمَرْنا
بمعنى كثّرنا- بتشديد الثاء- وقرئ أَمَرْنا
بتشديد الميم، أى: كثرنا مترفيها وجعلناهم أمراء مسلطين..
ولكن هذه القراءة. وقراءة آمرنا بمعنى «كثرنا» أيضا، ليستا من القراءات السبعة أو العشرة، وإنما هما من القراءات الشاذة.
قال الإمام ابن جرير: وأولى القراءات في ذلك عندي بالصواب، قراءة من قرأ «أمرنا» بقصر الألف وتخفيف الميم- لإجماع الحجة من القراء بتصويبها دون غيرها وإذا كان ذلك هو الأولى بالصواب بالقراءة، فأولى التأويلات به تأويل من تأوله: أمرنا أهلها بالطاعة فعصوا وفسقوا فيها. فحق عليهم القول، لأن الأغلب من معنى أَمَرْنا
الأمر الذي هو خلاف النهى دون غيره.
وتوجيه معاني كلام الله- جل ثناؤه- إلى الأشهر الأعرف من معانيه، أولى ما وجد إليه سبيل من غيره.. .
ويبدو لنا أن الرأى الأول الذي سار عليه جمهور المفسرين، وعلى رأسهم الإمام ابن جرير، أولى بالقبول، لأسباب منها:
ان القرآن الكريم يؤيده في كثير من آياته، ومن ذلك قوله- تعالى-: وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها، قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ.. .
فقوله- تعالى-: قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ دليل واضح على أن قوله- سبحانه-: أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها..
معناه: أمرناهم بالطاعة ففسقوا، وليس معناه أمرناهم بالفسق ففسقوا لأنه- سبحانه- لا يأمر لا بالفسق ولا بالفحشاء.
ومنها: أن الأسلوب العربي السليم يؤيده لأنك إذا قلت: أمرته فعصاني كان المعنى المتبادر والظاهر من هذه الجملة، أمرته بالطاعة فعصاني، وليس معناه. أمرته بالعصيان فعصاني.
ومنها: أن حمل الكلام على الحقيقة- كما سار جمهور المفسرين- أولى من حمله على المجاز- كما ذهب صاحب الكشاف-.
وقوله- سبحانه-: فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً
بيان لما نزل بهذه القرية وأهلها من عذاب محاها من الوجود، إذ التدمير هو الإهلاك مع طمس الأثر، وهدم البناء.
أى: أمرنا مترفيها بطاعتنا وشكرنا، فعصوا أمرنا وفسقوا فيها، فثبت وتحقق عليها عذابنا، فأهلكناها إهلاكا استأصل شأفتها، وأزال آثارها.
وأكد- سبحانه- فعل التدمير بمصدره، للمبالغة في إبراز شدة الهلاك الواقع على تلك القرية الظالم أهلها.
قال الآلوسى ما ملخصه: والآية تدل على إهلاك أهل القرية على أتم وجه، وإهلاك جميعهم، لصدور الفسق منهم جميعا، فإن غير المترف يتبع المترف عادة ...
وقيل: هلاك الجميع لا يتوقف على التبعية فقد قال- تعالى-: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً....
وقد صح عن أم المؤمنين زينب بنت جحش أنها قالت: قلت، يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم، إذا كثر الخبث .