الوسيط للطنطاوي
تفسير الآية رقم 106 من سورة النحل
ذكر المفسرون في سبب نزول قوله- تعالى-: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ ...
روايات منها قول الآلوسى: روى أن قريشا أكرهوا عمارا وأبويه: ياسرا، وسمية، على الارتداد فأبوا، فربطوا سمية بين بعيرين ... ثم قتلوها وقتلوا ياسرا، وهما أول شهيدين في الإسلام. وأما عمار فأعطاهم بلسانه ما أكرهوه عليه، فقيل يا رسول الله: إن عمارا قد كفر.
فقال صلى الله عليه وسلم: «كلا، إن عمارا ملئ إيمانا من قرنه إلى قدمه، واختلط الإيمان بلحمه ودمه» .
فأتى عمار رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبكى، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح عينيه وقال له: «مالك، إن عادوا فعد لهم بما قلت» . وفي رواية أنه قال له: «كيف تجد قلبك؟ قال مطمئن بالإيمان قال صلى الله عليه وسلم إن عادوا فعد» . فنزلت هذه الآية..
ثم قال الآلوسى: والآية دليل على جواز التكلم بكلمة الكفر عند الإكراه، وإن كان الأفضل أن يتجنب عن ذلك إعزازا للدين ولو تيقن القتل، كما فعل ياسر وسمية، وليس ذلك من إلقاء النفس إلى التهلكة، بل هو كالقتل في الغزو كما صرحوا به. .
و «من» في قوله مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مبتدأ أو شرطية، والخبر أو جواب الشرط محذوف والتقدير: فعليه غضب من الله، أو فله عذاب شديد، ويدل عليهما قوله- تعالى- بعد ذلك: وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ.
والمعنى: من كفر بالله- تعالى- من بعد إيمانه بوحدانيته- سبحانه- وبصدق رسوله صلى الله عليه وسلم فإنه بسبب هذا الكفر يكون قد ضل ضلالا بعيدا، يستحق من أجله العذاب المهين.
وقوله: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ استثناء متصل من الجملة السابقة أى:
إلا من أكره على النطق بكلمة الكفر، والحال أن قلبه مطمئن بالإيمان، ثابت عليه، متمكن منه.. فإنه في هذه الحالة لا يكون ممن يستحقون عقوبة المرتد.
قال بعض العلماء: وأما قوله: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ فهو استثناء متصل من «من» لأن الكفر أعم من أن يكون اعتقادا فقط، أو قولا فقط، أو اعتقادا وقولا ...
وأصل الاطمئنان سكون بعد انزعاج، والمراد به هنا: السكون والثبات على الإيمان بعد الانزعاج الحاصل بسبب الإكراه.. .
وقوله: وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ بيان لسوء مصير من استحب الكفر على الإيمان باختياره ورضاه.
و «من» في قوله مَنْ شَرَحَ شرطية، وجوابها فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ.
أى: حكم من تلفظ بكلمة الكفر مكرها أنه لا يعتبر مرتدا، ولكن حكم من طابت نفوسهم بالكفر، وانشرحت له صدورهم، واعتقدوا صحته، أنهم عليهم من الله- تعالى- غضب شديد لا يعلم مقداره إلا هو، ولهم يوم القيامة عذاب عظيم الهول، يتناسب مع عظيم جرمهم.
هذا، وقد ذكر الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية جملة من الأخبار التي حكت ما تعرض له المسلمون الأولون من فتن وآلام. فقال ما ملخصه: ولهذا اتفق العلماء على أن المكره على الكفر يجوز له أن يوالى إبقاء لمهجته، ويجوز له أن يأبى كما كان بلال- رضى الله عنه- يأبى عليهم ذلك، وهم يفعلون به الأفاعيل، حتى إنهم ليضعون الصخرة العظيمة على صدره في شدة الحر ويأمرونه بالشرك بالله، فيأبى عليهم وهو يقول: أحد، أحد، ويقول:
والله لو أعلم كلمة هي أغيظ لكم منها لقلتها .