الوسيط للطنطاوي
تفسير الآية رقم 119 من سورة هود
وقوله وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ تأكيد لما اقتضته سنته من اختلاف الناس.
أى: ولا يزالون ما بقيت الدنيا مختلفين في شأن الدين الحق، فمنهم من دخل فيه وآمن به، ومنهم من أعرض عنه، إلا الذين رحمهم ربك منهم بهدايتهم إلى الصراط المستقيم من أول الأمر، فإنهم لم يختلفوا، بل اتفقوا على الإيمان بالدين الحق فعصمهم الله- تعالى- من الاختلاف المذموم.
قال الإمام ابن كثير: وقوله إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ أى: إلا المرحومين من أتباع الرسل، الذين تمسكوا بما أمروا به من الدين الذي أخبرتهم به رسل الله إليهم، ولم يزل ذلك دأبهم، حتى كان النبي صلى الله عليه وسلم الأمى خاتم الرسل والأنبياء، فاتبعوه وصدقوه ونصروه، ففازوا بسعادة الدنيا والآخرة لأنهم الفرقة الناجية، كما جاء في الحديث المروي في المسانيد والسنن، من طرق يشد بعضها بعضا: إن اليهود افترقت على إحدى وسبعين فرقة، وإن النصارى افترقوا على ثنتين وسبعين فرقة. وستفترق أمتى على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا فرقة واحدة. قالوا: ومن هم يا رسول الله، قال: ما أنا عليه وأصحابى» .
واسم الإشارة في قوله وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ يعود على المصدر المفهوم من مختلفين قال الآلوسى: فكأنه قيل: وللاختلاف خلق الناس، على معنى لثمرة الاختلاف من كون فريق في الجنة وفريق في السعير خلقهم.
واللام لام العاقبة والصيرورة، لأن حكمة خلقهم ليس هذا، لقوله- سبحانه- وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ولأنهم لو خلقهم له- أى للاختلاف- لم يعذبهم على ارتكاب الباطل ... » .
ومنهم من جعل الإشارة إلى الرحمة لأنها أقرب مذكور، فيكون التقدير: إلا من رحم ربك ولرحمته- سبحانه- خلق الناس.
وصح تذكير اسم الإشارة مع عودته إلى الرحمة لكون تأنيثها غير حقيقى.
ومنهم من جعل الإشارة إلى مجموع الاختلاف والرحمة، لأنه لا مانع من الإشارة بها إلى شيئين كما في قوله عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ أى بين الفارض والبكر.
فيكون المعنى: «وللاختلاف والرحمة خلقهم» أى أنه- سبحانه- خلق أهل الرحمة للرحمة وأهل الاختلاف للاختلاف.
وقد رجح الإمام القرطبي هذا الوجه فقال: قوله «ولذلك خلقهم» قال الحسن ومقاتل وعطاء:
الإشارة إلى الاختلاف، أى: وللاختلاف خلقهم. وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك:
الإشارة إلى الرحمة: أى: ولرحمته خلقهم.
وقيل: الإشارة إلى الاختلاف والرحمة، وقد يشار بذلك إلى شيئين متضادين، كما في قوله- تعالى- وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً.
وهذا أحسن الأقوال- إن شاء الله- لأنه يعم. أى: ولما ذكر خلقهم.. أى: خلقهم ليكون فريق في الجنة وفريق في السعير. أى خلق أهل الاختلاف للاختلاف وأهل الرحمة للرحمة ... » .
والمراد بكلمة ربك في قوله- سبحانه- وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ قضاؤه النافذ، وإرادته التي لا تتخلف، وحكمه الأزلى.
أى: وتمت كلمة ربك، ونفذ قضاؤه، وثبت حكمه الذي أكده وأقسم عليه بقوله: لأملأن جهنم من عصاة الجن، ومن عصاة الإنس أجمعين، لأنه من المعروف أن الوعيد إنما هو للعصاة والمذنبين وليس للمؤمنين الصادقين.
قال الآلوسى: وفي معنى ذلك ما قيل من أن المراد بالجنة والناس أتباع إبليس لقوله- تعالى- في سورة الأعراف وفي سورة ص لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ فاللازم دخول جميع تابعيه في جهنم، والقرآن يفسر بعضه بعضا ... » .