الوسيط للطنطاوي
تفسير الآية رقم 83 من سورة يونس
قال الجمل: «قوله- سبحانه- فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ ... لما ذكر الله- تعالى- ما أتى به موسى- عليه السلام- من المعجزات العظيمة الباهرة، أخبر- سبحانه- أنه مع مشاهدة هذه المعجزات، ما آمن لموسى إلا ذرية من قومه. وإنما ذكر الله هذا تسلية لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم لأنه كان كثير الاهتمام بإيمان قومه، وكان يغتم بسبب إعراضهم عن الإيمان به، واستمرارهم على الكفر والتكذيب، فبين الله له أن له أسوة بالأنبياء- عليهم الصلاة والسلام-. لأن ما جاء به موسى من المعجزات، كان أمرا عظيما. ومع ذلك فما آمن له إلا ذرية من قومه» .
والآية الكريمة معطوفة على كلام محذوف يدل عليه السياق، والتقدير: لقد أتى موسى- عليه السلام- بالمعجزات التي تشهد بصدقه، والتي على رأسها، أن ألقى عصاه فإذا هي تبتلع ما فعله السحرة، ومع كل تلك البراهين الدالة على صدقه، فما آمن به إلا ذرية من قومه.
والمراد بالذرية هنا: العدد القليل من الشباب، الذين آمنوا بموسى، بعد أن تخلف عن الإيمان آباؤهم وأغنياؤهم.
قال الآلوسى: قوله إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ أى: إلا أولاد بعض بنى إسرائيل حيث دعا- عليه السلام- الآباء فلم يجيبوه خوفا من فرعون، وأجابته طائفة من شبابهم فالمراد من الذرية: الشبان لا الأطفال .
والضمير في قوله مِنْ قَوْمِهِ يعود لموسى- عليه السلام-، وعليه يكون المعنى:
فما آمن لموسى- عليه السلام- في دعوته إلى وحدانية الله، إلا عدد قليل من شباب قومه بنى إسرائيل، الذين كانوا يعيشون في مصر، والذين كان فرعون يسومهم سوء العذاب، أما آباؤهم وأصحاب الجاه فيهم، فقد انحازوا إلى فرعون طمعا في عطائه، وخوفا من بطشه بهم.
ويرى بعض المفسرين أن الضمير في قوله مِنْ قَوْمِهِ يعود إلى فرعون لا إلى موسى.
فيكون المعنى: فما آمن لموسى إلا عدد قليل من شباب قوم فرعون.
قال ابن كثير ما ملخصه مرجحا هذا الرأى: «يخبر الله- تعالى- أنه لم يؤمن بموسى- عليه السلام- مع ما جاء به من الآيات والحجج، إلا قليل من قوم فرعون، من الذرية- وهم الشباب-، على وجل وخوف منه ومن ملئه.
قال العوفى عن ابن عباس: «إن الذرية التي آمنت لموسى من قوم فرعون منهم:
امرأته، ومؤمن آل فرعون، وخازنه، وامرأة خازنه» .
ثم قال: واختار ابن جرير قول مجاهد في الذرية، أنها من بنى إسرائيل، لا من قوم فرعون. لعود الضمير على أقرب مذكور.
وفي هذا نظر، لأن من المعروف أن بنى إسرائيل كلهم آمنوا بموسى. واستبشروا به، فقد كانوا يعرفون نعته وصفته والبشارة به.
وإذا تقرر هذا فكيف يكون المراد إلا ذرية من قوم موسى وهم بنو إسرائيل؟» .
والذي نراه أن ما اختاره ابن جرير من عودة الضمير إلى موسى- عليه السلام- أرجح، لأن هناك نوع خفاء في إطلاق كلمة الذرية على من آمن من قوم فرعون، ومنهم زوجته، وامرأة خازنه.
ولأنه لا دليل على أن بنى إسرائيل كلهم قد آمنوا بموسى، بل الحق أن منهم من آمن به ومنهم من كفر به، كقارون والسامري وغيرهما.
ولأن رجوع الضمير إلى موسى- عليه السلام- هو الظاهر المتبادر من الآية، لأنه أقرب مذكور، وليس هناك ما يدعو إلى صرف الآية الكريمة عن هذا الظاهر.
ورحم الله ابن جرير فقد قال في ترجيحه لما ذهب إليه من عودة الضمير إلى موسى- عليه السلام- ما ملخصه:
وأولى هذه الأقوال عندي بتأويل الآية، القول الذي ذكرته عن مجاهد وهو أن الذرية في هذا الموضع، أريد بها ذرية من أرسل إليه موسى من بنى إسرائيل، وإنما قلت هذا القول أولى بالصواب، لأنه لم يجر في هذه الآية ذكر لغير موسى، فلأن تكون الهاء في قوله مِنْ قَوْمِهِ من ذكر موسى لقربها من ذكره أولى من أن تكون من ذكر فرعون، لبعد ذكره منها.
ولأن في قوله عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ الدليل الواضح على أن الهاء في قوله إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ من ذكر موسى لا من ذكر فرعون، لأنها لو كانت من ذكر فرعون لكان الكلام على خوف منه، ولم يكن على خوف من فرعون..» .
وقوله: عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ ... حال من كلمة ذُرِّيَّةٌ، وعَلى هنا بمعنى مع. والضمير في قوله مَلَائِهِمْ يعود إلى ملأ الذرية، وهم كبار بنى إسرائيل الذين لاذوا بفرعون طمعا في عطائه أو خوفا من عقابه ولم يتبعوا موسى- عليه السلام-.
والمعنى: فما آمن لموسى الا عدد قليل من شباب قومه، والحال أن إيمانهم كان مع خوف من فرعون ومن أشراف قومهم أن يفتنوهم عن دينهم، أى: أن يعذبوهم ليحملوهم على ترك اتباع موسى- عليه السلام.
والضمير في يَفْتِنَهُمْ يعود إلى فرعون خاصة، لأنه هو الآمر بالتعذيب ولأن الملأ إنما كانوا يأتمرون بأمره، وينتهون عن نهيه، فهم كالآلة في يده يصرفها كيف يشاء.
وجملة أَنْ يَفْتِنَهُمْ في تأويل مصدر، بدل اشتمال من فرعون، أى: على خوف من فرعون فتنته.
وقوله: وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ اعتراض تذييلى مؤكد لمضمون ما قبله، ومقرر لطغيان فرعون وعتوه.
أى: وإن فرعون المتكبر متجبر في أرض مصر كلها، وإنه لمن المسرفين المتجاوزين لكل حد في الظلم والبغي وادعاء ما ليس له.
والمتجبرون والمسرفون يحتاجون في مقاومتهم إلى إيمان عميق، واعتماد على الله وثيق، وثبات يزيل المخاوف ويطمئن القلوب إلى حسن العاقبة، ولذا قال موسى لأتباعه المؤمنين:
يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ.