الوسيط للطنطاوي
تفسير الآية رقم 59 من سورة يونس
ثم أمر الله- تعالى- رسوله صلى الله عليه وسلم أن يرد أيضا على أولئك الذين أحلوا وحرموا على حسب أهوائهم دون أن يأذن الله لهم بذلك فقال: قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالًا، قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ أى: قل لهم يا محمد- أيضا- أخبرونى أيها المبدلون لشرع الله على حسب أهوائكم: إن الله- تعالى- قد أفاض عليكم ألوانا من الرزق الحلال فجئتم أنتم، وقسمتم هذا الرزق الحلال، فجعلتم منه حلالا وجعلتم منه حراما.
وقد حكى الله- تعالى- فعلهم هذا في آيات متعددة، منها قوله- تعالى-: وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا .
قال الإمام ابن كثير: «قال ابن عباس ومجاهد والضحاك وقتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهم، نزلت إنكارا على المشركين فيما كانوا يحلون ويحرمون من البحائر والسوائب والوصائل كقوله- تعالى-: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً ... الآيات.
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة عن أبى إسحاق، سمعت أبا الأحوص وهو عوف بن مالك بن نضلة يحدث عن أبيه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا رث الهيئة فقال: هل لك مال؟ قلت: نعم. قال: من أى المال؟ قال: قلت: من كل
المال. من الإبل والرقيق والخيل والغنم. فقال: إذا آتاك الله مالا فلير عليك ثم قال: هل تنتج إبلك صحاحا آذانها، فتعمد إلى موسى فتقطع آذانها فتقول: هذه بحر. وتشق جلودها وتقول هذه صرم وتحرمها عليك وعلى أهلك. قال: نعم. قال: فإن ما آتاك الله لك حل.
ساعد الله أشد من ساعدك. وموسى الله أحد من موساك» .
وقوله: قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ استفهام قصد به التوبيخ والزجر أى:
قل لهم يا محمد على سبيل التوبيخ والزجر: إن الله وحده هو الذي يملك التحليل والتحريم، فهل هو- سبحانه- أذن لكم في ذلك، أو إنما أنتم الذين حللتم وحرمتم على حسب أهوائكم. لأنه لو أذن لكم في ذلك لبينه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.
قال صاحب الكشاف: «وقوله: آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ متعلق بأرأيتم، وقل تكرير للتوكيد. والمعنى أخبرونى آلله أذن لكم في التحليل والتحريم، فأنتم تفعلون ذلك بإذنه، أم تكذبون على الله في نسبة ذلك إليه. ويجوز أن تكون الهمزة للإنكار وأم منقطعة، بمعنى: بل أتفترون على الله، تقريرا للافتراء.
ثم قال: وكفى بهذه الآية زاجرا بليغا عن التجوز فيما يسأل عنه من الأحكام، وباعثة على وجوب الاحتياط فيه، وأن لا يقول أحد في شيء جائز أو غير جائز إلا بعد إيقان وإتقان، ومن لم يوقن فليتق الله وليصمت وإلا فهو مفتر على الله» .