تفسير ابن عاشور
تفسير الآية رقم 66 من سورة التوبة
لمّا كان قولهم : { إنما كنا نخوض ونلعب } [ التوبة : 65 ] اعتذاراً عن مناجاتهم ، أي إظهاراً للعذر الذي تناجَوا من أجله ، وأنّه ما يحتاجه المتعَب : من الارتياح إلى المزح والحديثثِ في غير الجدّ ، فلمّا كشف الله أمر استهزائهم ، أردفه بإظهار قلّة جدوى اعتذارهم إذ قد تلبّسوا بما هو أشنع وأكبر ممّا اعتذروا عنه ، وهو التباسهم بالكفر بعد إظهار الإيمان . فإن الله لمّا أظهر نفاقهم . كان ما يصدر عنهم من الاستهزاء أهون فجملة { لا تعتذروا } من جملة القول الذي أمر الرسول أن يقوله ، وهي ارتقاء في توبيخهم ، فهي متضمّنة توكيداً لمضمون جملة { أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون } [ التوبة : 65 ] ، مع زيادة ارتقاء في التوبيخ وارتقاء في مثالبهم بأنّهم تلبّسوا بما هو أشدّ وهو الكفر ، فلذلك قطعت الجملة عن التي قبلها ، على أنّ شأن الجمل الواقعة في مقام التوبيخ أن تقطع ولا تعطف لأنّ التوبيخ يقتضي التعْداد ، فتقع الجمل الموبَّخ بها موقع الأعداد المحسوبة نحو واحد ، اثنان ، فالمعنى لا حاجة بكم للإعتذار عن التناجي فإنّكم قد عُرفتم بما هو أعظم وأشنع .
والنهي مستعمل في التسوية وعدم الجدوى .
وجملة : { قد كفرتم بعد إيمانكم } في موضع العلّة من جملة : { لا تعتذروا } تعليلاً للنهي المستعمل في التسوية وعدم الجدوى .
وقوله : { قد كفرتم } يدلّ على وقوع الكفر في الماضي ، أي قبل الاستهزاء ، وذلك أنّه قد عُرف كفرهم من قبل . والمراد بإسناد الإيمان إليهم : إظهارُ الإيمان ، وإلاّ فَهُم لم يؤمنوا إيماناً صادقاً . والمراد بإيمانهم : إظهارهم الإيمان ، لا وقوع حقيقته . وقد أنبأ عن ذلك إضافة الإيمان إلى ضميرهم دون تعريف الإيمان باللام المفيدة للحقيقة ، أي بعد إيمان هو من شأنكم ، وهذا تعريض بأنّه الإيمان الصوري غير الحقّ ونظيره قوله تعالى الآتي { وكفروا بعد إسلامهم } [ التوبة : 74 ] وهذا من لطائف القرآن .
{ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنْكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ }.
جاءت هذه الجملة على عادة القرآن في تعقيب النذارة بالتبشير للراغب في التوبة تذكيراً له بإمكان تدارك حاله .
ولمّا كان حال المنافقين عجيباً كانت البشارة لهم مخلوطة ببقية النذارة ، فأنبأهم أنّ طائفة منهم قد يُعفى عنها إذا طلبت سبب العفو : بإخلاص الإيمان ، وأنّ طائفة تَبْقى في حالة العذاب ، والمقام دالّ على أنّ ذلك لا يكون عبثاً ولا ترجيحاً بدون مُرجّح ، فما هو إلاّ أنّ طائفة مرجّوة الإيمان ، فيغفر عمّا قدّمته من النفاق ، وأخرى تصرّ على النفاق حتّى الموت ، فتصير إلى العذاب . والآيات الواردة بعد هذه تزيد ما دلَّ عليه المقام وضوحاً من قوله : { نسوا الله فنسيهم إلى قوله عذاب مقيم } [ التوبة : 67 ، 68 ]. وقوله بعد ذلك : { فإن يتوبوا يك خيراً لهم وإن يتولّوا يعذّبهم الله عذاباً أليما في الدنيا والآخرة }
[ التوبة : 74 ].
وقد آمن بعض المنافقين بعد نزول هذه الآية ، وذكر المفسّرون من هذه الطائفة مخشيَّا بن حُمَيِّر الأشجعي لمّا سمع هذه الآية تاب من النفاق ، وحسن إسلامه ، فعدّ من الصحابة ، وقد جاهد يوم اليمامة واستشهد فيه ، وقد قيل : إنّه المقصود «بالطائفة» دون غيره فيكون من باب إطلاق لفظ الجماعة على الواحد في مقام الإخفاء والتعمية كقوله صلى الله عليه وسلم " مَا بال أقوام يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله " وقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي المدينة بقية من المنافقين وكان عمر بن الخطاب في خلافته يتوسّمهم .
والباء في { بأنهم كانوا مجرمين } للسببية ، والمجرم الكافر .
وقرأ الجمهور { يُعفَ وتُعذبْ } ببناء الفعلين إلى النائب ، وقرأه عاصم بالبناء للفاعل وبنون العظمة في الفعلين ونصب { طائفة } الثاني .