تفسير ابن عاشور
تفسير الآية رقم 10 من سورة الأعلى
سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10) أي فذكر الناس ودلّ عليه قوله : { سيذكر من يخشى } الآيتين .
وجملة : { إن نفعت الذكرى } معترضة بين الجملتين المعلَّلة وعِلتها ، وهذا الاعتراض منظور فيه إلى العموم الذي اقتضاه حذف مفعول { فذكر } ، أي فدم على تذكير الناس كلهم إن نفعت الذكرى جميعهم ، أي وهي لا تنفع إلا البعض وهو الذي يؤخذ من قوله : { سيذكر من يخشى } الآية .
فالشرط في قوله : { إن نفعت الذكرى } جملة معترضة وليس متعلقاً بالجملة ولا تقييداً لمضمونها إذ ليس المعنى : فذكر إذا كان للذكرى نفع حتى يفهم منه بطريق مفهوم المخالفة أن لا تُذَكِّر إذا لم تنفع الذكرى ، إذ لا وجه لتقييد التذكير بما إذا كانت الذكرى نافعة إذ لا سبيل إلى تعرف مواقع نفع الذكرى ، ولذلك كان قوله تعالى : { فذكر بالقرآن من يخاف وعيد } [ ق : 45 ] مؤولاً بأن المعنى فذكر بالقرآن فيتذكر من يخاف وعيد ، بل المراد فذكّر الناس كافة إنْ كانت الذكرى تنفع جميعَهم ، فالشرط مستعمل في التشكيك لأن أصل الشرط ب ( إنْ ) أن يكون غير مقطوع بوقوعه ، فالدعوة عامة وما يعلمه الله من أحوال الناس في قبول الهدى وعدمه أمر استأثر اللَّهُ بعلمه ، فأبو جهل مدعو للإِيمان والله يعلم أنه لا يؤمن لكن الله لم يخصّ بالدعوة من يرجى منهم الإِيمان دون غيرهم ، والواقعُ يكشف المقدور .
وهذا تعريض بأن في القوم من لا تنفعه الذكرى وذلك يفهم من اجْتلاب حرف ( إنْ ) المقتضي عدم احتمال وقوع الشرط أو ندرة وقوعه ، ولذلك جاء بعده بقوله : { سيذكر من يخشى } فهو استئناف بياني ناشىء عن قوله : { فذكر } وما لحقه من الاعتراض بقوله : { إن نفعت الذكرى } المشعر بأن التذكير لا ينتفع به جميع المذكَّرين .
وهذا معنى قول ابن عباس : تنفع أوليائي ولا تنفع أعدائي ، وفي هذا ما يريك معنى الآية واضحاً لا غُبار عليه ويدفع حيرة كثير من المفسرين في تأويل معنى ( إن ) ، ولا حاجة إلى تقدير الفراء والنحاس : إن نفعت الذكرى وإن لم تنفع وأنه اقتصر على القسم الواحد لدلالته على الثاني .
ويذّكَّر : مُطاوع ذَكَّره . وأصله : يتذكر ، فقلبت التاء ذالاً لقرب مخرجيهما ليتأتى إدغامها في الذال الأخرى .
و { من يخشى } : جنس لا فرد معين أي سيتذكر الذين يَخْشون . والضمير المستتر في { يخشى } مراعى فيه لفظ ( من ) فإنه لفظ مُفرد .
وقد نُزِّل فعل { يخشى } منزلة اللازم فلم يقدّر له مفعول ، أي يتذكر من الخَشْيَة فكرته وجبلته ، أي من يتَوقع حصول الضر والنفع فينظر في مظان كللٍ ويتدبر في الدلائل لأنه يخشى أن يحق عليه ما أنذر به .
والخشية : الخوف ، وتقدم في قوله تعالى : { لعله يتذكر أو يخشى } في سورة طه ( 44 ) . والخشية ذات مراتب وفي درجاتها يتفاضل المؤمنون .