تفسير ابن عاشور
تفسير الآية رقم 44 من سورة الأنفال
{ وإذ يريكموهم } عطف على { إذ يريكهم الله } [ الأنفال : 43 ] وهذه رؤيةُ بَصَر أراها الله الفريقين على خلاف ما في نفس الأمر ، فكانت خطأ من الفريقين ، ولم يُرها النبي صلى الله عليه وسلم ولذلك عديت رؤيا المنام الصادقة إلى ضمير النبي ، في قوله : { إذ يريكهم الله } [ الأنفال : 43 ] وجُعلت الرؤية البصرية الخاطئة مسندة إلى ضمائر الجَمعين ، وظاهر الجمع يعمّ النبي صلى الله عليه وسلم فيُخصّ من العموم . أرَى الله المسلمين أنّ المشركين قليلون ، وأرى المشركين أنّ المسلمين قليلون . خَيل الله لكلا الفريقين قلّة الفريق الآخر ، بإلقاء ذلك التخيّل في نفوسهم ، وجعل الغاية من تينك الرؤيتَين نصر المسلمين ، وهذا من بديع صنع الله تعالى إذ جعل للشيء الواحد أثرين مختلفين ، وجعل للأثرين المختلفين أثراً متّحداً ، فكان تخيّل المسلمين قلّة المشركين مقويّاً لقلوبهم ، وزائداً لشجاعتهم ، ومزيلاً للرعب عنهم ، فعظم بذلك بأسهم عند اللقاء ، لأنّهم ما كان ليفلّ من بأسهم إلاّ شعورهم بأنّهم أضعف من أعدائهم عَدداً وعُدداً ، فلمّا أزيل ذلك عنهم ، بتخييلهم قلّة عدوّهم ، خلصت أسباب شدّتهم ممّا يوهنها . وكان تخيّل المشركين قلّة المسلمين ، أي كونَهم أقلّ ممّا هم عليه في نفس الأمر ، بَرْداً على غليان قلوبهم من الغيظ ، وغارّاً إياهم بأنّهم سينالون التغلّب عليهم بأدنى قتال ، فكان صارفاً إيّاهم عن التأهّب لقتال المسلمين ، حتّى فاجأهم جيش المسلمين ، فكانت الدائرةُ على المشركين ، فنتج عن تخيّل القلّتين انتصار المسلمين .
وإنّما لم يكن تخيل المسلمين قلة المشركين مثبطاً عزيمتهم ، كما كان تخيّل المشركين قلّة المسلمين مثبطاً عزيمتهم ، لأنّ المسلمين كانت قلوبهم مفعمة حنقاً على المشركين ، وإيماناً بفساد شركهم ، وامتثالاً أمرَ الله بقتالهم ، فما كان بينهم وبين صبّ بأسهم على المشركين إلاّ صرف ما يثبط عزائمهم . فأمّا المشركون ، فكانوا مزدهين بعَدائهم وعنادهم ، وكانوا لا يرون المسلمين على شيء ، فهم يحسبون أنّ أدنى جولة تجول بينهم يقبضون فيها على المسلمين قبضاً ، فلذلك لا يعبؤون بالتأهّب لهم ، فكان تخييل ما يزيدهم تهاوناً بالمسلمين يزيد تواكلهم وإهمال إجماع أمرهم .
قال أهل السير : كان المسلمون يحسبون عدد المشركين يتراوح بين السبعين والمائة وكانوا في نفس الأمر زهاء ألف ، وكان المشركون يحسبون المسلمين قليلاً ، فقد قال أبو جهل لقومه ، وقد حَزر المسلمين : إنّما هم أكَلَةُ جَزُور ، أي قُرابةُ المائة ، وكانوا في نفس الأمر ثلاثمائة وبضعة عشر .
وهذا التخيل قد يحصل من انعكاس الأشعّة واختلاف الظِّلال ، باعتبار مواقع الرائين من ارتفاع المواقع وانخفاضها ، واختلاف أوقات الرؤية على حسب ارتفاع الشمس ، وموقع الرائين من مواجهتها أو استدبارها ، وبعض ذلك يحصل عند حدوث الآل والسراب ، أو عند حدوث ضباب أو نحو ذلك ، وإلقاء الله الخيال في نفوس الفريقين أعظم من تلك الأسباب .
وهذه الرؤية قد مضت بقرينة قوله : { إذ التقيتم } فالتعبير بالمضارع لاستحضار الحالة العجيبة لهاته الإراءة ، كما تقدّم في قوله تعالى : { إذ يريكهم الله في منامك قليلاً } [ الأنفال : 43 ].
و { إذ التقيتم } ظرف ل { يريكموهم } وقوله : { في أعينكم } تقييد للإراءة بأنّها في الأعين ، لا غير ، وليس المرئيّ كذلك في نفس الأمر ، ويُعلم ذلك من تقييد الإراءة بأنّها في الأعين ، لأنّه لو لم يكن لمقصد لكان مستغنى عنه ، مع ما فيه من الدلالة على أنّ الإراءة بصرية لا حُلمية كقوله في الآية الأخرى : { ترونهم مثليهم رأي العين } [ آل عمران : 13 ].
والالتقاء افتعال من اللقاء ، وصيغة الافتعال فيه دالّة على المبالغة . واللقاء والالتقاء في الأصل الحضور لدى الغير ، من صديق أو عدوّ ، وفي خير أو شرّ ، وقد كثر إطلاقه على الحضور مع الأعداء في الحرب ، وقد تقدّم عند قوله تعالى في هذه السورة { يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً } [ الأنفال : 15 ] الآية .
{ ويقللكم } يجعلكم قليلاً ، لأنّ مادة التفعيل تدلّ على الجَعل ، فإذا لم يكن الجعل متعَلّقاً بذات المفعول ، تعيّن أنّه متعلّق بالإخبار عنه ، كما ورد في الحديث في يوم الجمعة : «وفيه ساعة» ، قال الراوي : يقلّلها؛ أو متعلق بالإراءة كما هنا ، وذلك هو الذي اقتضى زيادة قوله : { في أعينهم } ليُعلم أنّ التقليل ليس بالنقص من عدد المسلمين في نفس الأمر .
وقوله : { ليقضي الله أمراً كان مفعولا } هو نظير قوله : { ولكن ليقضي الله أمراً كان مفعولاً } [ الأنفال : 42 ] المتقدم أعيد هنا لأنّه علّة إراءة كلا الفريقين الفريق الآخر قليلاً ، وأما السابق فهو علّة لتلاقي الفريقين في مكان واحد في وقت واحد .
ثم إنّ المشركين لما يرزوا لقتال المسلمين ظهر لهم كثرة المسلمين فبُهتوا ، وكغان ذلك بعد المناجزة ، فكان ملقياً الرعب في قلوبهم ، وذلك ما حكاه في سورة [ آل عمران : 13 ] قوله : { ترونهم مثليهم رأي العين }
وخولف الأسلوب في حكاية إراءة المشركين ، وحكاية إراءة المسلمين ، لأنّ المشركين كانوا عدداً كثيراً فناسب أن يحكي تقليلهم بإراءتهم قليلاً ، المُؤذنة بأنّهم ليسوا بالقليل . وأمّا المسلمون فكانوا عدداً قليلاً بالنسبة لعدوّهم ، فكان المناسب لتِقليلهم : أن يعبّر عنه بأنّه تقليل المؤذن بأنّه زيادة في قلّتهم .
وجملة : وإلى اللَّه ترجع الأمور } تذييل معطوف على ما قبله عطفاً اعتراضياً ، وهو اعتراض في آخر الكلام ، وهذا العطف يسمّى : عطفاً اعتراضيّاً ، لأنّه عطف صوريٌّ ليست فيه مشاركة في الحكم ، وتسمّى الواو اعتراضية . والتعريف في قوله : { الأمور } للاستغراق ، أي جميع الأشياء .
والرجوع هنا مستعمل في الأول وانتهاء الشيء ، والمراد رجوع أسبابها ، أي إيجَادُها ، فإنّ الأسباب قد تلوح جارية بتصرّف العباد وتأثير الحوادث ، ولكن الأسباب العالية ، وهي الأسباب التي تتصاعد إليها الأسبابُ المعتادة ، لا يتصرّف فيها إلاّ الله وهو مؤثّرها وموجدها . على أنّ جميع الأسباب ، عالِيها وقريبِها ، متأثر بما أودع الله فيها من القوى والنواميس والطبائِع ، فرجوع الجميع إليه ، ولكنّه رجوع متفاوت على حسب جريه على النظام المعتاد ، وعدم جريه ، فإيجاد الأشياء قد يلوح حصوله بفعل بعض الحوادث والعباد ، وهو عند التأمّل الحقِّ راجع إلى إيجاد الله تعالى خالق كلّ صانع .
والذوات وأحوالُها كلّها من الأمور ، ومآلها كلُّه رجوع ، فهذا ليس رجوع ذوات ولكنه رجوع تصرّف ، كالذي في قوله : { إنا لله وإنا إليه راجعون } [ البقرة : 156 ].
والمعنى : ولا عجب في ما كوّنه الله من رؤية الجيشين على خلاف حالهما في نفس الأمر ، فإنّ الإراءة المعتادة ترجع إلى ما وضعه الله من الأسباب المعتادة ، والإراءة غير المعتادة راجعة إلى أسباب يضعها الله عند إرادته .
وقرأ نافع ، وابن كثير ، وأبو عمرو ، ويعقوب { ترجع } بضمّ التاء وفتح الجيم أي يَرجعها ، راجع إلى الله ، والذي يرجعها هو الله فهو يرجعها إليه . وقرأ البقية { تَرجع } بفتح التاء وكسر الجيم أي : ترجع بنفسها إلى الله ، ورجوعها هو برجوع أسبابها .