تفسير ابن عاشور
تفسير الآية رقم 6 من سورة النبأ
أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6)
لما كان أعظم نبأ جاءهم به القرآن إبطال إلهية أصنامهم وإثبات إعادة خلق أجسامِهم ، وهما الأصلان اللذان أثارا تكذيبهم بأنه من عند الله وتألبهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وترويجهم تكذيبه ، جاء هذا الاستئناف بياناً لإجمال قوله : { عن النبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون } [ النبأ : 2 ، 3 ] .
وسيجيء بعده تكملته بقوله : { إن يوم الفصل كان ميقاتاً } [ النبأ : 17 ] .
وجمع الله لهم في هذه الآيات للاستدلال على الوحدانية بالانفراد بالخلق ، وعلى إمكان إعادة الأجساد للبعث بعد البِلى بأنها لا تبلغ مبلغ إيجاد المخلوقات العظيمة ولكون الجملة في موقع الدليل لم تعطف على ما قبلها .
والكلام موجه إلى منكري البعث وهم الموجه إليهم الاستفهام فهو من قبيل الالتفات لأن توجيه الكلام في قوة ضمير الخطاب بدليل عطف { وخلقناكم أزواجاً } [ النبأ : 8 ] عليه .
والاستفهام في { ألم نجعل } تقريري وهو تقرير على النفي كما هو غالب صيغ الاستفهام التقريري أن يَكون بعده نفي والأكثر كونه بحرف ( لم ) ، وذلك النفي كالإعذار للمقرَّر إن كان يريد أن ينكر وإنما المقصود التقرير بوقوع جعل الأرض مهاداً لا بنفيه فحرف النفي لمجرد تأكيد معنى التقرير .
فالمعنى : أجعلنا الأرض مهاداً ولذلك سيعطف عليه { وخلقناكم أزواجاً } وتقدم عند قوله تعالى : { ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض } في سورة البقرة ( 33 ) . ولا يسعهم إلا الإِقرار به قال تعالى : { ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن اللَّه } [ لقمان : 25 ] ، وحاصل الاستدلال بالخلق الأول لمخلوقات عظيمة أنه يدل على إمكان الخلق الثاني لمخلوقات هي دون المخلوقات الأولى قال تعالى : { لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ( أي الثاني ) ولكن أكثر الناس لا يعلمون } [ غافر : 57 ] .
وجَعْلُ الأرض : خَلْقُهَا على تلك الحالة لأن كونها مهاداً أمر حاصل فيها من ابتداء خلقها ومِن أزمان حصول ذلك لها من قبل خلق الإِنسان لا يعلمه إلا الله .
والمعنى : أنه خلقها في حال أنها كالمهاد فالكلام تشبيه بليغ .
والتعبير ب { نجعل } دون : نخلق ، لأن كونها مهاداً حالة من أحوالها عند خلقها أو بعده بخلاف فعل الخلق فإنه يتعدى إلى الذات غالباً أو إلى الوصف المقوّم للذات نحو : { الذي خلق الموت والحياة } [ الملك : 2 ] .
والمِهاد : بكسر الميم الفراش الممهد المُوطّأُ؛ وَزِنَةُ الفِعَال فيه تدل على أن أصله مصدر سمي به للمبالغة . وفي «القاموس» : أن المهاد يرادف المهد الذي يجعل للصبي . وعلى كل فهو تشبيه للأرض به إذ جُعل سطحها ميسراً للجلوس عليها والاضطجاع وبالأحرى المشي ، وذلك دليل على إبداع الخلق والتيسير على الناس ، فهو استدلال يتضمن امتناناً وفي ذلك الامتنان إشعار بحكمة الله تعالى إذ جعل الأرض ملائمة للمخلوقات التي عليها فإن الذي صنع هذا الصنع لا يعجزه أن يخلق الأجسام مرة ثانية بعد بِلاها .
والغرض من الامتنان هنا تذكيرهم بفضل الله لعلهم أن يرعَوُوا عن المكابرة ويقبلوا على النظر فيما يدعوهم إليه الرسول صلى الله عليه وسلم تبليغاً عن الله تعالى .
ومناسبة ابتداء الاستدلال على إمكان البعث بخلق الأرض أن البعث هو إخراج أهل الحشر من الأرض فكانت الأرض أسبق شيء إلى ذهن السامع عند الخوض في أمر البعث ، أي بعث أهل القبور .
وجعل الأرض مهاداً يتضمن الاستدلال بأصل خلق الأرض على طريقة الإيجاز ولذلك لم يتعرض إليه بعدُ عند التعرض لخلق السماوات .