تفسير ابن عاشور
تفسير الآية رقم 28 من سورة الإنسان
نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا (28)
لما كان الإِخبار عنهم بأنهم { يذرون ورآءهم يوماً ثقيلاً } [ الإنسان : 27 ] يتضمن أنهم ينكرون وقوع ذلك اليوم كما قدمناه وكان الباعث لهم على إنكاره شبهةُ استحالة إعادة الأجسادِ بعد بِلاها وفنائها ، وكان الكلام السابق مسوقاً مساق الذم لهم والإِنكار عليهم جيء هنا بما هو دليل للإِنكار عليهم وإبطال لشبهتهم ببيان إمكان إعادة خلقهم يُعيده الذي خلقهم أول مرّة كما قال تعالى : { فسيقولون من يُعيدنا قُللِ الذي فطركم أول مرة } [ الإسراء : 51 ] وغيرِ ذلك من الآيات الحائمة حول هذا المعنى .
وافتتاح الجملة بالمبتدإ المخبر عنه بالخبر الفِعلي دون أن تفتتح ب { خلقناهم } أو نحن خالقون ، لإِفادة تقوّي الخبر وتحقيقه بالنظر إلى المعنِيِّينَ بهذا الكلام وإن لم يكن خطاباً لهم ولكنهم هم المقصود منه .
وتقويةُ الحكم بناءٌ على تنزيل أولئك المخلوقين منزلة من يشك في أن الله خلقهم حيث لم يجْرُؤوا على موجِب العلم فأنكروا أن الله يعيد الخلق بعد البِلَى ، فكأنهم يسندون الخلق الأول لغيره . وتقوِّي الحكم يترتب عليه أنه إذا شاء بدَّل أمثالهم بإعادة أجسادهم فلذلك لم يُحتج إلى تأكيد جملة : { وإذا شئنا بدّلنا أمثالهم } ، استغناء بتولد معناها عن معنى التي قبلها وإن كان هو أولى بالتقوية على مقتضى الظاهر . وهذا التقوّي هنا مشعر بأن كلاماً يعقبه هو مصب التقوِّي ، ونظيره في التقوِّي والتفريع قوله تعالى : { نحن خلقناكم فلولا تصدقون أفرأيتم ما تُمْنُون إلى قوله : وما نحن بمسبوقين على أن نبدِّل أمثالكم فإن المفرع هو أفرأيتم ما تمنون وما اتصل به . وجملة { فلولا تُصَدِّقون } معترضة وقد مضى في سورة الواقعة ( 57 - 61 ) .
فأمثالهم } : هي الأجساد الثانية إذ هي أمثال لأجسادهم الموجودةِ حين التنزيل .
والشدّ : الإِحكام وإتقان ارتباط أجزاء الجسد بعضها ببعض بواسطة العظام والأعصاب والعروق إذ بذلك يستقلّ الجسم .
والأسر : الربط ، وأطلق هنا على الإِحكام والإِتقان على وجه الاستعارة .
والمعنى : أحْكمنا ربط أجزاء أجسامهم فكانت مشدوداً بعضها إلى بعض .
وقوله : { وإذا شئنا بَدَّلْنا أمثالهم } إخبار بأن الله قادر على أن يُبدلهم بناس آخرين .
فحذف مفعول { شئنا } لدلالة وجواب { إذَا } عليه كما هو الشأن في فعل المشيئة غالباً .
واجتلاب { إذا } في هذا التعليق لأن شأن { إذا } أن تفيد اليقين بوقوع ما قُيد بها بخلاف حرف ( إنْ ) فهو إيماء إلى أن حصول هذه المشيئة مستقرب الوقوع .
فيجوز أن يَكون هذا بمنزلة النتيجة لقوله : { نحن خلقناهم } الخ ، ويُحمل الشرط على التحقق قال تعالى : { وإن الدين لَوَاقع } [ الذاريات : 6 ] .
ويجوز أن يكون قوله : { وإذا شئنا بدلنا أمثالهم } تهديداً لهم على إعراضهم وجحودهم للبعث ، أي لو شئنا لأهلكناهم وخلقنا خلقاً آخر مثلهم كقوله تعالى : { إنْ يشأ يُذْهِبْكُم ويَأتتِ بخَلْق جديد } [ إبراهيم : 19 ] .
ويكون { إذا } مراداً به تحقق التلازم بين شرط { إذا } وجوابها ، أي الجملةِ المضاففِ إليها ، والجملةِ المتعلَّق بها .
وفعل التبديل يقتضي مبدَّلاً ومبدَّلاً به وأيُّهما اعتبرتَه في موضع الآخر صح لأن كل مُبَدَّل بشيء هو أيضاً مُبدَّلٌ به ذلك الشيءُ ، ولا سيما إذا لم يكن في المقام غرض ببيان المرغوب في اقتِنَائه والمسموح ببذله من الشيئين المستبدَلين ، فحُذف من الكلام هنا متعلِّق { بدَّلنا } وهو المجرور بالباء لأنه أولى بالحذف ، وأُبقي المفعول .
وقد تقدم نظيره في سورة الواقعة ( 61 ) في قوله : { على أنْ نُبَدل أمثالكم } ، ومنه قوله تعالى : { إِنا لقادرون على أن نبدّلَ خيراً منهم } في سورة المعارج ( 40 ، 41 ) فالتقدير : بَدَّلْنا منهم .
والأمثال : جمع مِثْل وهو المماثل في ذاتتٍ أو صفة ، فيجوز أن يراد أمثالهم في أشكال أجسادهم وهو التبديل الذي سيكون في المعاد .
ويجوز أن يراد أمثالهم في أنهم أُمم ، وعلى الوجه الأول فهو يدل على أن البعث يحصل بخلق أجسام على مِثال الأجساد التي كانت في الحياة الدنيا للأرواح التي كانت فيها .
وانتصب تبديلاً } على المفعول المطلق المؤكِّد لعامله للدلالة على أنه تبديل حقيقي ، وللتوصل بالتنوين إلى تعظيمه وعجوبته .