تفسير ابن عاشور
تفسير الآية رقم 27 من سورة نوح
إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27)
وجملة { إنك إن تذرهم يُضِلُّوا عبادك } تعليل لسؤاله أن لا يترك الله على الأرض أحداً من الكافرين يريد أنه خشي أن يضلوا بعض المؤمنين وأن يلدوا أبناء ينشأون على كفرهم .
والأرض يجوز أن يراد بها جميع الكُرة الدنيوية ، وأن يراد أرض معهودة للمتكلم والمخاطَببِ كما في قوله تعالى : { قال اجعلني على خزائن الأرض يعني أرض مصر } في سورة يوسف ( 55 ) .
ويحتمل أن يكون البشر يومئذٍ منحصرين في قوم نوح ، ويجوز خلافه ، وعلى هذه الاحتمالات ينشأ احتمال أن يكون الطوفان قد غمر جميع الكرة الأرضية ، واحتمالُ أن يكون طوفاناً قاصراً على ناحية كبيرة من عموم الأرض ، والله أعلم . وقد تقدم ذلك عند تفسير قوله تعالى : { فأنجيناه والذين معه في الفلك } في سورة الأعراف ( 64 ) .
وخبر إنك } مجموع الشرط مع جوابه الواقع بعد ( إنّ ) لأنه إذا اجتمع مبتدأ وشرط رجح الشرط على المبتدأ فأعطي الشرطُ الجوابَ ولم يعط المبتدأ خبراً لدلالة جملة الشرط وجوابه عليه .
وعَلِم نوح أنهم لا يلدون إلاّ فاجراً كفّاراً بأن أولادهم ينشأون فيهم فيلقنونهم دينهم ويصدون نوحاً عن أن يرشدهم فحصل له علم بهذه القضية بدليل التجربة .
والمعنى : ولا يلدوا إلاّ من يصير فاجراً كفَّاراً عند بلوغه سن العقل .
والفاجر : المتصف بالفجور ، وهو العمل الشديد الفساد .
والكَفَّار : مبالغة في الموصوف بالكفر ، أي إلاّ من يجمع بين سوء الفعل وسوء الاعتقاد ، قال تعالى : { أولئك هم الكفرة الفجرة } [ عبس : 42 ] .
وفي كلام نوح دلالة على أن المصلحين يهتمون بإصلاح جيلهم الحاضر ولا يهملون تأسيس أسس إصلاح الأجيال الآتية إذ الأجيال كلها سواء في نظرهم الإِصلاحي . وقد انتزع عمر بن الخطاب من قوله تعالى : { والذين جاءوا من بعدهم } [ الحشر : 10 ] دليلاً على إبقاء أرض سواد العراق غير مقسومة بين الجيش الذي فَتَح العراق وجعلها خراجاً لأهلها قصداً لدوام الرزق منها لمن سيجيء من المسلمين .