تفسير ابن عاشور
تفسير الآية رقم 107 من سورة الأنعام
وقوله : { ولو شاء الله ما أشركوا } عطف على جملة { وأعرض عن المشركين }.وهذا تلطّف مع الرّسول صلى الله عليه وسلم وإزالة لما يلقاه من الكَدَر من استمرارهم على الشّرك وقلّة إغناء آيات القرآن ونُذُره في قلوبهم ، فذكّره الله بأنّ الله قادر على أن يحوّل قلوبهم فتقبَل الإسلام بتكوين آخر ولكنّ الله أراد أن يحصل الإيمانُ ممّن يؤمن بالأسباب المعتادة في الإرشاد والاهتداء ليَميز الله الخبيثَ من الطيّب وتَظهرَ مراتب النّفوس في ميادين التلقّي ، فأراد الله أن تختلف النّفوس في الخير والشّر اختلافاً ناشئاً عن اختلاف كيفيّات الخِلقة والخُلُق والنّشأة والقبوللِ ، وعن مراتب اتّصال العباد بخالقهم ورجائهم منه . فالمشركون بلغوا إلى حَضِيض الشّرك بأسباب ووسائلَ متسلسلة مترتّبة خَلْقية ، وخُلُقيّة ، واجتماعيّة ، تهيأت في أزمنة وأحوال هيّأتْها لهم ، فلمّا بَعَث الله إليهم المرشد كان إصغاؤهم إلى إرشاده متفاوتاً على تفاوت صلابة عقولهم في الضّلال وعراقتهم فيه ، وعلى تفاوت إعداد نفوسهم للخير وجموحهم عنه ، ولم يجعل الله إيمان النّاس حاصلاً بخوارق العادات ولا بتبديل خَلْق العقول ، وهذا هو القانون في معنى مثل هذه الآية ، فهذا معنى انتفاء مشيئة الله في هذا المقام المراد به تطمين قلب الرّسول عليه الصّلاة والسّلام وتذكيره بحقائق الأحوال وليس في مثل هذا عذر لهم ولا لأمثالهم من العصاة ، ولذلك ردّ الله عليهم الاعتذار بمثل هذا في قوله في الآية الآتية { سيقول الّذين أشركوا لو شاءَ الله ما أشْرَكْنا ولا آباؤنا ولا حَرّمنَا من شيء كذلك كذّب الّذين من قبلهم حتّى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا } [ الأنعام : 148 ] الآية . وفي قوله : { وقالوا لو شاء الرّحمان ما عَبدْناهم ما لهم بذلك من علم إنْ هم إلاّ يخرصون } [ الزخرف : 20 ] في سورة الزخرف ، لأنّ هذه حقيقة كاشفة عن الواقع لا تصلح عذراً لمن طلب منهم أن لا يكونوا في عِداد الّذين لم يشأ الله أن يرشدهم ، قال تعالى : { أولئك الّذين لم يرد الله أن يطهّر قلوبهم } [ المائدة : 41 ].
ومفعول المشيئة محذوف دلّ عليه جواب ( لو ) على الطّريقة المعروفة . والتّقدير : ولو شاء الله عدمَ إشراكهم ما أشركوا . وتقدّم عند قوله تعالى : { ولو شاء الله لجمعهم على الهدى } في هذه السّورة [ 35 ].
وقوله : { وما جعلناك عليهم حفيظاً } تذكير وتسلية ليزيح عنه كرب إعراضهم عن الإسلام لأنّ ما يحصل له من الكدر لإعراض قومه عن الإسلام يجعل في نفسه انكساراً كأنّه انكسار من عُهد إليه بعمل فلم يتسَنَّ له ما يريده من حسن القيام ، فذكّره الله تعالى بأنّه قد أدّى الأمانة وبلّغ الرّسالة وأنّه لم يبعثه مُكرهاً لهم ليأتي بهم مسلمين ، وإنّما بعثه مبلّغاً لرسالته فمن آمن فلنفسه ومن كفر فعليها .
والحفيظ : القيّم الرّقيب ، أي لم نجعلك رقيباً على تحصيل إيمانهم فلا يهمّنك إعراضهم عنك وعدم تحصيل ما دعوتَهم إليه إذ لا تَبِعة عليك في ذلك ، فالخبر مسوق مساق التّذكير والتسلية ، لا مساقَ الإفادة لأنّ الرّسول عليه الصّلاة والسّلام يعلم أنّ الله ما جعله حفيظاً على تحصيل إسلامهم إذ لا يجهل الرّسولُ ما كلّف به .
وكذلك قوله : { وما أنت عليهم بوكيل } تهوين على نفس الرّسول عليه الصّلاة والسّلام بطريقة التّذكير لينتفي عنه الغمّ الحاصل له من عدم إيمانهم . فإن أريد ما أنت بوكيل مِنَّا عليهم كان تتميماً لقوله : { وما جعلناك عليهم حفيظاً } ؛ وإنْ أريد ما أنتَ بوكيل منهم على تحصيل نفعهم كان استيعاباً لنفي أسباب التّبعة عنه في عدم إيمانهم ، يقول : ما أنت بوكيل عليهم وكّلوك لتحصيل منافعهم كإيفاء الوكيل بما وكّله عليه موكّله ، أي فلا تَبِعة عليك منهم ولا تقصير لانتفاء سببي التّقصير إذ ليس مقامك مقام حفيظ ولا وكيل . فالخبر أيضاً مستعمل في التّذكير بلازمه لا في حقيقته من إفادة المخبر به ، وعلى كلا المعنيين لا بدّ من تقدير مضاف في قوله : { عليهم } ، أي على نفعهم .
والجمع بين الحفيظ والوكيل هنا في خبرين يؤيّد ما قلناه آنفاً في قوله تعالى : { وما أنا عليكم بحفيظ } [ الأنعام : 104 ]. من الفرق بين الوكيل والحفيظ فاذْكُره .