تفسير ابن عاشور
تفسير الآية رقم 50 من سورة القمر
وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50(
عطف على قوله : { إنا كل شيء خلقناه بقدر } [ القمر : 49 ] فهو داخل في التذييل ، أي خلقناه كل شيء بعلم ، فالمقصود منه وما يصلح له معلوم لنا فإذا جاء وقته الذي أعددناه حصل دَفعة واحدة لا يسبقه اختبار ولا نظَر ولا بداء . وسيأتي تحقيقه في آخر تفسير هذه الآية .
والغرض من هذا تحذيرهم من أن يأخذهم العذاب بغتة في الدنيا عند وجود ميقاته وسبق إيجاد أسبابه ومقوماته التي لا يتفطنون لوجودها ، وفي الآخرة بحلول الموت ثم بقيام الساعة .
وعطف هذا عقب { إنا كل شيء خلقناه بقدر } [ القمر : 49 ] مشعر بترتب مضمونه على مضمون المعطوف عليه في التنبيه والاستدلال حسب ما هو جارٍ في كلام البلغاء من مراعاة ترتب معاني الكلام بعضها على بعض حتى قال جماعة من أئمة اللغة : الفَراءُ وثعلبٌ والربعيُ وقطربٌ وهشامٌ وأبو عمرو الزاهد : إن العطف بالواو يفيد الترتيب ، وقال ابن مالك : الأكثر إفادته الترتيب .
والأمر في قوله : { وما أمرنا } يجوز أن يكون بمعنى الشأن ، فيكون المراد به الشأن المناسب لسياق الكلام ، وهو شأن الخلق والتكوين ، أي وما شأن خلقنا الأشياء .
ويجوز أن يكون بمعنى الإِذن فيراد به أمر التكوين وهو المعبر عنه بكلمة «كن» والمآل واحد .
وعلى الاحتمالين فصفةُ { واحدة } وصف لموصوف محذوف دل عليه الكلام هو خبر عن { أمرنا } . والتقدير : إلا كلمة واحدةٌ ، وهي كلمة ( كُنْ ( كما قال تعالى : { إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون } [ يس : 82 ] .
والمقصود الكناية عن أسرع ما يمكن من السرعة ، أي وما أمرنا إلا كلمة واحدة . وذلك في تكوين العناصر والبسائط وكذلك في تكوين المركبات لأن أمر التكوين يتوجه إليها بعد أن تسبقه أوامر تكوينية بإيجاد أجزائها ، فلكل مكوّن منها أمر تكوين يخصه هو كلمة واحدة فتبين أن أمر الله التكويني كلمة واحدة ولا ينافي هذا قوله : { ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام } [ ق : 38 ] ونحوه ، فخلق ذلك قد انطوى على مخلوقات كثيرة لا يُحصر عددها كما قال تعالى : { يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقاً من بعد خلق } [ الزمر : 6 ] فكل خلق منها يحصل بكلمة واحدة كلمح البصر على أن بعض المخلوقات تتولد منه أشياء وآثار فيعتبر تكوينه عند إيجاد أوّله .
وصح الإِخبار عن ( أمر ( وهو مذكَّر ب { واحدة } وهو مؤنث باعتبار أن ما صْدَق الأمر هنا هو أمر التسخير وهو الكلمة ، أي كلمة ( كن ( .
وقوله : { كلمح بالبصر } في موضع الحال من { أمرنا } باعتبار الإِخبار عنه بأنه كلمة واحدة ، أي حصول مرادنا بأمرنا كلمح بالبصر ، وهو تشبيه في سرعة الحصول ، أي ما أمرنا إلا كلمة واحدة سريعة التأثير في المتعلّقةِ هي به كسرعة لمح البصر .
وهذا التشبيه في تقريب الزمان أبلغ ما جاء في الكلام العربي وهو أبلغ من قول زهير :
فهن وَوادِي الرسِّ كاليد للفَم ... وقد جاء في سورة النحل ( 77 ( { وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب فزيد هنالك أو { هو أقرب } لأن المقام للتحذير من مفاجأة الناس بها قبل أن يستعدوا لها فهو حقيق بالمبالغة في التقريب ، بخلاف ما في هذه الآية فإنه لتمثيل أمْر الله وذلك يكفي فيه مجرد التنبيه إذ لا يتردد السامع في التصديق به .
وقد أفادت هذه الآية إحاطة علم الله بكل موجود وإيجادَ الموجودات بحكمة ، وصدورها عن إرادة وقدرة .
واللمح : النظر السريع وإخلاس النظر ، يقال : لَمحَ البصر ، ويقال : لَمح البرق كما يقال : لمعَ البرق . ولما كان لمح البصر أسرع من لمح البرق قال تعالى : { كلمح بالبصر } كما قال في سورة النحل ( 77 ( { إلا كلمح البصر . }