تفسير ابن عاشور
تفسير الآية رقم 102 من سورة المائدة
وقوله : { قد سألها قوم من قبلكم ثُم أصبحوا بها كافرين } استئناف بياني جواب سؤال يثيره النهي عن السؤال ثم الإذن فيه في حين ينزل القرآن ، أن يقول سائل : إن كان السؤال في وقت نزول القرآن وأنّ بعض الأسئلة يسوء جوابه قوماً ، فهل الأوْلى ترك السؤال أو إلقاؤه . فأجيب بتفصيل أمرها بأنّ أمثالها قد كانت سبباً في كفر قوممٍ قبل المسلمين .
وضمير { سألها } جُوّز أن يكون عائداً إلى مصدر مأخوذ من الكلام غير مذكور دلّ عليه فعل { تسألوا } ، أي سأل المسألة ، فيكون الضمير منصوباً على المفعولية المطلقة . وجرى جمهور المفسّرين على تقدير مضاف ، أي سأل أمثالها . والمماثلة في ضآلة الجدوى . والأحسن عندي أن يكون ضمير { سألها } عائداً إلى { أشياء } ، أي إلى لفظه دون مدلوله . فالتقدير : قد سأل أشياء قومٌ من قبلكم ، وعدّي فعل { سأل } إلى الضمير على حذف حرف الجرّ ، وعلى هذا المعنى يكون الكلام على طريقة قريبة من طريقة الاستخدام بل هي أحقّ من الاستخدام ، فإنّ أصل الضمير أن يعود إلى لفظ باعتبار مدلوله وقد يعود إلى لفظ دون مدلوله ، نحو قولك : لك درهم ونصفه ، أي نصف درهم لا الدرهم الذي أعطيته إياه . والاستخدام أشدّ من ذلك لأنّه عود الضمير على اللفظ مع مدلول آخر .
و { ثم } في قوله : { ثم أصبحوا بها كافرين } للترتيب الرتبي كشأنها في عطف الجمل فإنّها لا تفيد فيه تراخي الزمان وإنّما تفيد تراخي مضمون الجملة المعطوفة في تصوّر المتكلّم عن تصور مضمون الجملة المعطوف عليها ، فتدلّ على أنّ الجملة المعطوفة لم يكن يُترقب حصول مضمونها حتى فاجأ المتكلم . وقد مرّت الإشارة إلى ذلك عند قوله تعالى : { ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم } في سورة البقرة ( 85 ) .
والباء في قوله { بها } يجوز أن تكون للسببية ، فتتعلّق بِ { أصبحوا } ، أي كانت تلك المسائل سبباً في كفرهم ، أي باعتبار ما حصل من جوابها ، ويحتمل أن تكون «للتعدية» فتتعلّق ب { كافرين } ، أي كفروا بها ، أي بجوابها بأن لم يصدّقوا رسلهم فيما أجابوا به ، وعلى هذا الوجه فتقديم المجرور على عامله مفيد للتخصيص ، أي ما كفروا إلاّ بسببها ، أي كانوا في منعة من الكفر لولا تلك المسائل ، فقد كانوا كالباحث على حتفه بظلفه ، فهو تخصيص ادّعائي ، أو هو تقديم لمجرّد الاهتمام للتنبيه على التحذير منها .
وفعل { أصبحوا } مستعمل بمعنى صاروا ، وهو في هذا الاستعمال مشعر بمصير عاجل لا تريّث فيه لأنّ الصباح أول أوقات الانتشار للأعمال .
والمراد بالقوم بعض الأمم التي كانت قبل الإسلام ، سألوا مثل هذه المسائل ، فلمّا أعطوا ما سألوا لم يؤمنوا ، مثل ثمود ، سألوا صالحاً آية ، فلمّا أخرج لهم ناقة من الصخر عقروها ، وهذا شأن أهل الضلالة متابعةُ الهوى فكلّ ما يأتيهم ممّا لا يوافق أهواءهم كذّبوا به ، كما قال الله تعالى : { وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم مُعرضون وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين } [ النور : 48 ، 49 ] ، وكما وقع لليهود في خبر إسلام عبد الله بن سَلام . وقريب ممّا في هذه الآية ما قدّمناه عند تفسير قوله تعالى : { قل من كان عدوّاً لجبريل } في سورة البقرة ( 97 ) . فإنّ اليهود أبغضوا جبريل لأنّه أخبر دانيال باقتراب خراب أورشليم ، وتعطيل بيت القدس ، حسبما في الإصحاح التاسع من كتاب دانيال . وقد سأل اليهود زكرياء وابنه يحيى عن عيسى ، وكانا مقدّسين عند اليهود ، فلمّا شهدا لعيسى بالنبوءة أبغضهما اليهود وأغروا بهما زوجة هيرودس فحملته على قتلهما كما في الإصحاح الرابع من إنجيل متّى والإصحاح الثالث من مرقس .
والمقصود من هذا ذمّ أمثال هذه المسائل بأنّها لا تخلو من أن تكون سبباً في غمّ النفس وحشرجة الصدر وسماع ما يَكره ممّن يُحبّه . ولولا أنّ إيمان المؤمنين وازع لهم من الوقوع في أمثال ما وقع فيه قومٌ من قبلهم لكانت هذه المسائل محرّمة عليهم لأنها تكون ذريعة للكفر .
فهذا استقصاء تأويل هذه الآية العجيبة المعاني البليغة العبر الجديرة باستجلائها ، فالحمد لله الذي منّ باستضوائها .