تفسير ابن عاشور
تفسير الآية رقم 100 من سورة المائدة
لما آذن قوله : { اعلموا أنّ الله شديد العقاب وأنّ الله غفور رحيم } [ المائدة : 98 ] وقوله : { والله يعلم ما تبدون وما تكتمون } [ المائدة : 99 ] بأنّ الناس فريقان : مطيعون وعصاة ، فريق عاندوا الرسول ولم يمتثلوا ، وهم من بقي من أهل الشرك ومن عاضدهم من المنافقين ، وربما كانوا يظهرون للقبائل أنّهم جمع كثير ، وأنّ مثلهم لا يكون على خطأ ، فأزال الله الأوهام التي خامرت نفوسهم فكانت فتنة أو حجّة ضالّة يموّه بها بعض منهم على المهتدين من المسلمين . فالآية تؤذن بأن قد وجدت كثرة من أشياء فاسدة خيف أن تستهوي من كانوا بقلّة من الأشياء الصالحة ، فيحتمل أن تكون تلك الكثرة كثرة عدد في الناس إذ معلوم في متعارف العرب في الجاهلية وفي أول الإسلام الاعتزاز بالكثرة والإعجاب بها . قال الأعشى :
ولستَ بالأكثرِ منهم حصًى ... وإنّما العزّة للكاثر
وقال السموأل أو عبد الملك الحارثي :
تعيّرنا أنّا قليل عَدِيدنَا ... وقد تعجّب العنبري إذ لام قومه فقال :
لكنّ قومي وإن كانوا ذوي عَدد ... ليسوا من الشرّ في شيء وإن هانا
قال السديّ : كثرة الخبيث هم المشركون ، والطيّب هم المؤمنون . وهذا المعنى يناسب لو يكون نزول هذه الآية قبل حجّة الوداع حين كان المشركون أكثر عدداً من المسلمين؛ لكن هذه السورة كلّها نزلت في عام حجّة الوداع فيمكن أن تكون إشارة إلى كثرة نصارى العرب في الشام والعراق ومشارف الشام لأنّ المسلمين قد تطلّعوا يومئذٍ إلى تلك الأصقاع ، وقيل : أريد منها الحرام والحلال من المال ، ونقل عن الحسن .
ومعنى { لا يستوي } نفي المساواة ، وهي المماثلة والمقاربة والمشابهة . والمقصود منه إثبات المفاضلة بينهما بطريق الكناية ، والمقام هو الذي يعيّن الفاضل من المفضول ، فإنّ جعل أحدهما خبيثاً والآخر طيّباً يعيّن أنّ المراد تفضيل الطيّب . وتقدّم عند قوله تعالى : { ليسوا سواء } في سورة آل عمران ( 113 ) . ولمّا كان من المعلوم أنّ الخبيث لا يساوي الطيّب وأنّ البون بينهما بعيد ، علم السامع من هذا أنّ المقصود استنزال فهمه إلى تمييز الخبيث من الطيّب في كلّ ما يلتبس فيه أحدهما بالآخر ، وهذا فتح لبصائر الغافلين كيلا يقعوا في مهواة الالتباس ليعلموا أنّ ثمّة خبيثاً قد التفّ في لباس الحسن فتموّه على الناظرين ، ولذلك قال ولو أعجبك كثرة الخبيث } . فكان الخبيث المقصود في الآية شيئاً تلبّس بالكثرة فراق في أعين الناظرين لكثرته ، ففتح أعينهم للتأمّل فيه ليعلموا خبثه ولا تعجبهم كثرته .
فقوله : { ولو أعجبك كثرة الخبيث } من جملة المقول المأمور به النبيءُ صلى الله عليه وسلم أي قُل لهم هذا كلّه ، فالكاف في قوله : { أعجبك } للخطاب ، والمخاطب بها غير معيَّن بل كلّ من يصلح للخطاب ، مثل { ولو ترى إذ وقفوا على النار } [ الأنعام : 27 ] ، أي ولو أعجبَ مُعْجَبا كثرةُ الخبيث .
وقد علمت وجه الإعجاب بالكثرة في أول هذه الآية .
وليس قوله : { ولو أعجبك كثرة الخبيث } بمقتض أنّ كلّ خبيث يكون كثيراً ولا أن يكون أكثر من الطيِّب من جنسه ، فإنّ طيِّب التَمر والبرّ والثمار أكثر من خبيثها ، وإنّما المراد أن لا تعجبكم من الخبيث كثرته إذا كان كثيراً فتصرفكم عن التأمّل من خبثه وتحدُوَكم إلى متابعته لكثرته ، أي ولكن انظروا إلى الأشياء بصفاتها ومعانيها لا بأشكالها ومبانيها ، أو كثرةُ الخبيث في ذلك الوقت بوفرة أهل الملل الضالّة . والإعجاب يأتي الكلام عليه عند قوله تعالى : { فلا تُعْجبْك أمْوالهم ولا أولادهم } في سورة براءة ( 55 ) .
وفي تفسير ابن عرفة } قال : «وكنت بحثت مع ابن عبد السلام وقلت له : هذه تدلّ على الترجيح بالكثرة في الشهادة لأنّهم اختلفوا إذا شهد عدلان بأمر وشهد عشرة عدول بضدّه ، فالمشهور أن لا فرق بين العشرة والعدلين ، وهما متكاملان . وفي المذهب قول آخر بالترجيح بالكثرة . فقوله : { ولو أعجبك كثرة الخبيث } يدلّ على أنّ الكثرة لها اعتبار بحيث إنّها ما أسقطت هنا إلاّ للخبث ، ولم يوافقني عليه ابن عبد السلام بوجه . ثم وجدت ابن المنير ذكره بعينه» اه .
والواو في قوله { ولو أعجبك } واو الحال ، و { لو } اتّصالية ، وقد تقدّم بيان معناهما عند قوله تعالى : { فلن يقبل من أحدهم ملْءُ الأرض ذهباً ولو افتدى به } في سورة آل عمران ( 91 ) .
وتفريع قوله : فاتّقوا الله يا أولى الألباب } على ذلك مؤذن بأنّ الله يريد منّا إعمال النظر في تمييز الخبيث من الطيّب ، والبحث عن الحقائق ، وعدم الاغترار بالمظاهر الخلابة الكاذبة ، فإنّ الأمر بالتقوى يستلزم الأمر بالنظر في تمييز الأفعال حتى يُعرف ما هو تقوى دون غيره .
ونظير هذا الاستدلال استدلاللِ العلماء على وجوب الاجتهاد بقوله تعالى : { فاتّقوا الله ما استطعتم } [ التغابن : 16 ] ، لأنّ ممّا يدخل تحت الاستطاعة الاجتهاد بالنسبة للمتأهّل إليه الثابت له اكتساب أداته . ولذلك قال هنا : { يأولي الألباب } فخاطب الناس بصفة ليؤمىء إلى أنّ خلق العقول فيهم يمكِّنهم من التمييز بين الخبيث والطيّب لاتّباع الطيّب ونبذ الخبيث . ومن أهمّ ما يظهر فيه امتثال هذا الأمر النظر في دلائل صدق دعوى الرسول وأن لا يحتاج في ذلك إلى تطلّب الآيات والخوارق كحال الذين حكى الله عنهم { وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجّر لنا من الأرض ينبوعاً } [ الإسراء : 90 ] الآية ، وأن يميّز بين حال الرسول وحال السحرة والكهّان وإن كان عددهم كثيراً .
وقوله : { لعلّكم تفلحون } تقريب لحصول الفلاح بهم إذا اتّقوا هذه التقوى التي منها تمييز الخبيث من الطيّب وعدم الاغترار بكثرة الخبيث وقلّة الطيّب في هذا .