تفسير ابن عاشور
تفسير الآية رقم 30 من سورة الأحقاف
قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30(فقالوا : إنا سمعنا قرآناً عجباً» . وفي «الصحيح» عن ابن مسعود «افتقدْنا النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة وهو بمكة فقلنا ما فَعل به اغتيل أو واستطيرَ فبتنا بشرِّ ليلة حتى إذا أصبحنا إذا نحن به من قِبَل حِراء فقال " أتاني دَاعي الجن فأتيتهم فقرأت عليهم القرآن "
وأيًّا مَّا كان فهذا الحادث خارق عادة وهو معجزة للنبيء صلى الله عليه وسلم وقد تقدم قوله تعالى : { يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي } في سورة الأنعام ( 130 ( .
والصرف : البعث . والنفر : عدد من الناس دون العشرين . وإطلاقه على الجن لتنزيلهم منزلة الإنس وبيانه بقوله : من الجن } .
وجملة { يستمعون القرآن } في موضع الحال من الجن وحيث كانت الحال قيداً لعاملها وهو { صرفنا } كان التقدير : يستمعون منك إذا حضروا لديك فصار ذلك مؤديا مؤدَّى المفعول لأجله .
فالمعنى : صرفناهم إليك ليستمعوا القرآن .
وضمير { حضروه } عائد إلى القرآن ، وتعدية فعل حضروا إلى ضمير القرآن تعدية مجازية لأنهم إنما حضروا قارىء القرآن وهو الرسول صلى الله عليه وسلم و { أنصتوا } أمر بتوجيه الأسماع إلى الكلام اهتماماً به لئلا يفوت منه شيء . وفي حديث جابر بن عبد الله في حجة الوداع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له : «استنصت الناس» ، أي قبل أن يبدأ في خطبته .
وفي الحديث : " إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة أنْصِت والإمام يخطب فقد لغوت " ، أي قالوا كلُّهم : أنصتوا ، كل واحد يقولها للبقية حرصاً على الوعي فنطق بها جميعهم .
و { قُضِي } مِبني للنائب . والضمير للقرآن بتقدير مضاف ، أي قضيت قراءته ، أي انتهى النبي صلى الله عليه وسلم من القراءة حين حضروا وبانتهائه من القراءة تمّ مراد الله من صرف الجن ليستمعوا القرآن ف ( ولَّوا ( ، أي انصرفوا من مكان الاستماع ورجعوا إلى حيث يكون جنسهم وهو المعبر عنه ب { قومهم } على طريقة المجاز ، نزل منزلة الإنس لأجل هذه الحالة الشبيهة بحالة الناس ، فإطلاق القوم على أمة الجن نظير إطلاق النفر على الفريق من الجن المصروف إلى سماع القرآن .
والمنذر : المخبر بخبر مخيف .
ومعنى { ولوا إلى قومهم منذرين } رجعوا إلى بني جنسهم بعد أن كانوا في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم يتسمعون القرآن فأبلغوهم ما سمعوا من القرآن مما فيه التخويف من بأس الله تعالى لمن لا يؤمن بالقرآن . والتبشير لمن عمِل بما جاء به القرآن . ولا شك أن الله يسّر لهم حضورهم لقراءة سورة جامعة لما جاء به القرآن كفاتحة الكتاب وسورة الإخلاص . وجملة { قالوا يا قومنا } إلى آخرها مبينة لقوله : { منذرين } . وحكاية تخاطب الجن بهذا الكلام الذي هو من كلام عربي حكاية بالمعنى إذ لا يعرف أن للجن معرفة بكلام الإنس ، وكذلك فعل { قالوا } مجاز عن الإفادة ، أي أفادوا جنسهم بما فهموا منه بطرق الاستفادة عندهم معانيَ ما حكي بالقول في هذه الآية كما في قوله تعالى : { قالت نملة يأيها النمل ادخلوا مساكنكم } [ النمل : 18 ] . وابتدأوا إفادتهم بأنهم سمعوا كتاباً تمهيداً للغرض من الموعظة بذكر الكتاب ووصفه ليستشرفَ المخاطبون لما بعد ذلك .
ووصْف الكتاب بأنه { أنزل من بعد موسى } دون : أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم لأن «التوراة» آخر كتاب من كتب الشرائع نزل قبل القرآن ، وأما ما جاء بعده فكتب مكملة للتوراة ومبينة لها مثل «زبور داود» و«إنجيل عيسى» ، فكأنه لم ينزل شيء جديد بعد «التوراة» فلما نَزل القرآن جاء بهدي مستقل غير مقصود منه بيان التوراة ولكنه مصدق للتوراة وهادٍ إلى أزيد مما هدت إليه «التوراة» .
و { ما بين يديه } : ما سبقه من الأديان الحق . ومعنى { يهدي إلى الحق } : يهدي إلى الاعتقاد الحق ضد الباطل من التوحيد وما يجب لله تعالى من الصفات وما يستحيل وصفه به .
والمراد بالطريق المستقيم : ما يسلك من الأعمال والمعاملة . وما يترتب على ذلك من الجزاء ، شبه ذلك بالطريق المستقيم الذي لا يضل سالكه عن القصد من سيره . ويجوز أن يراد ب { الحق } ما يشمل الاعتقاد والأعمال الصالحة ويراد بالطريق المستقيم الدلائل الدالة على الحق وتزييف الباطل فإنها كالصراط المستقيم في إبلاغ متبعها إلى معرفة الحق .