تفسير ابن عاشور
تفسير الآية رقم 90 من سورة النساء
الاستثناء من الأمر في قوله : { فخذوهم واقتلوهم } أي : إلاّ الذين آمنوا ولم هاجروا . أو إلاّ الذين ارتدّوا على أدبارهم إلى مكة بعد أن يهاجروا ، وهؤلاء يصلون إلى قوم ممّن عاهدوكم ، فلا تتعرّضوا لهم بالقتل ، لئلاّ تنقضوا عهودكم المنعقدة مع قومهم .
ومعنى ( يَصلُونَ ) ينتسبون ، مثل معنى اتَّصل في قول أحد بني نبهان :
ألاَ بَلْغَا خُلَّني رَاشِداً ... وصِنْوِي قديماً إذَا ما اتَّصل
أي انتسب ، ويحتمل أن يكون بمعنى التحق ، أي إلاّ الذين يلتحقون بقوم بينكم وبينهم ميثاق ، فيدخلون في عهدهم ، فعلى الاحتْمال الأول هم من المعاهدين أصالة وعلى الاحتمال الثاني هم كالمعاهدين لأنّ معاهَد المعاهَد كالمعاهَد . والمراد ب ( الذين يصلون ) قوم غير معيّنين ، بل كلّ من اتّصل بقوم لهم عهد مع المسلمين ، ولذلك قال مجاهد : هؤلاء من القوم الذين نزل فيهم { فما لكم في المنافقين فئتين } [ النساء : 88 ] .
وأمّا قوله : { إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق } فالمراد به القبائل التي كان لهم عهد مع المسلمين . قال مجاهد : لمّا نزلت : { فما لكم في المنافقين فئتين } الآية خاف أولئك الذين نزلت فيهم ، فذهبوا ببضائعهم إلى هلال بن عويمر الأسلمي ، وكان قد حَالف النبي صلى الله عليه وسلم على : أن لا يعينه ولا يعين عليه ، وأنّ من لَجَأ إلى هلال من قومه وغيرهم فله من الجوار مثل ما له . وقيل : أريد بالقوم الذين بينكم وبينهم ميثاق خزاعة ، وقيل : بنو بكر بن زيد مناءةَ كانوا في صلح وهدنة مع المسلمين ، ولم يكونوا آمنوا يومئذٍ وقيل : هم بنو مُدْلِج إذ كان سراقة بن مالك المدلِجي قد عقد عهدا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لقومه بني مدلج بعد يوم بدر ، على أن لا يعينوا على رسول الله ، وأنّهم إن أسلمتُ قريش أسلموا وإن لم تُسلم قريش فهم لا يسلمون ، لئلاّ تخشن قلوب قريش عليهم . والأولى أنّ جميع هذه القبائل مشمول للآية .
ومعنى { أو جاؤوكم حصرت صدورهم أن يقاتلوكم } الخ : أو جاءوا إلى المدينة مهاجرين ولكنّهم شرطوا أن لا يقاتلوا مع المؤمنين قومهم فاقْبَلُوا منهم ذلك . وكان هذا رخصة لهم أوّل الإسلام ، إذ كان المسلمون قد هادنوا قبائل من العرب تألّفاً لهم ، ولمن دخل في عهدهم ، فلمّا قوي الإسلام صار الجهاد مع المؤمنين واجباً على كلّ من يدخل في الإسلام ، أمّا المسلمون الأوّلون من المهاجرين والأنصار ومن أسلموا ولم يشترطوا هذا الشرط فلا تشملهم الرخصة ، وهم الذين قاتلوا مشركي مكة وغيرها .
وقرأ الجمهور «حَصِرَت» بصيغة فعل المضي المقترن بتاء تأنيث الفعل وقرأه يعقوب «حَصِرةً» بصيغة الصفة وبهاء تأنيث الوصف في آخره منصوبةٌ منونّة .
و { حصرت } بمعنى ضاقت وحرجت .
و { أن يقاتلوكم } مجرور بحذف عن ، أي ضاقت عن قتالكم ، لأجل أنّهم مؤمنون لا يرضون قتال إخوانهم ، وعن قتال قومهم لأنّهم من نسب واحد ، فعظم عليهم قتالهم .
وقد دلّ قوله : { حصرت صدورهم } على أنّ ذلك عن صدق منهم . وأريد بهؤلاء بنو مدلِج : عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك ، وقد عذرهم الله بذلك إذ صدَقوا ، وبيّن الله تعالى للمؤمنين فائدة هذا التسخير الذي سَخَّر لهم من قوم قد كانوا أعداء لهم فصاروا سلماً يودّونهم . ولكنّهم يأبون قتال قومهم فقال : { ولو شاء الله لسلّطهم عليكم فلقاتلوكم } . ولذلك أمر المؤمنين بكفّ أيديهم عن هؤلاء إن اعتزلوهم ولم يقاتلوهم ، وهو معنى قوله : { فما جعل الله لكم عليهم سبيلاً } أي إذْنا بعد أذْن أمر المؤمنين بقتال غيرهم حيث وجدوهم .
والسبيل هنا مستعار لوسيلة المؤاخذة ، ولذلك جاء في خبره بحرف الاستعلاء دون حرف الغاية ، وسيأتي الكلام عليه عند قوله تعالى : { ما على المحسنين من سبيل } في سورة براءة ( 91 ) .