تفسير ابن عاشور
تفسير الآية رقم 79 من سورة النساء
وبعد أن أمر الله رسوله بما يجيب به هؤلاء الضالّين علَّمه حقيقة التفصيل في إصابة الحسنة والسيئة من جهة تمحّض النسبة إلى الله تعالى أو اختلاطها بالانتساب إلى العبد ، فقال : { ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيّئة فمن نفسك } . ووُجِّه الخطاب للرسول لأنّه المبلّغ عن الله ، ولأنّ هذا الجوابَ لإبطال ما نَسبه الضالّون إليه من كونه مصدرَ السيّئات التي تصيبهم .
وأعلَمْ أنّ للحوادث كلّها مؤثّراً . وسبباً مقارناً ، وأدلّة تنبىء عنها وعن عواقبها ، فهذه ثلاثة أشياء لا تخلو عنها الحوادث كلّها ، سواء كانت غير اختيارية ، أم اختيارية كأفعال العباد . فالله قدّر المنافع والمضارّ بعلمه وقدَرِه وخلق مؤثّراتها وأسبابَها ، فهذا الجُزء لله وحده لقوله : { قلْ كلّ من عند الله } .
والله أقام بالألطاف الموجودات ، فأوجدها ويسّر لها أسباب البقاء والانتفاع بما أودع فيها من العقول والإلهامات ، وحفّها كلّها في سائر أحوالها بألطاف كثيرة ، لولاها لما بقيت الأنواع ، وساق إليها أصول الملاءمة ، ودفع عنها أسباب الآلام في الغالب ، فالله لطيف بعباده . فهذا الجزءُ لله وحده لقوله : { قُل كلّ من عند الله } .
والله نصب الأدلّة للناس على المنافع والمضارّ التي تكتسب بمختلف الأدلّة الضرورية ، والعقلية ، والعاديةِ ، والشرعية ، وعَلَّم طرائقَ الوصول إليها ، وطرائقَ الحيدة عنها ، وأرشد إلى موانع التأثير لمن شاء أن يُمانعها ، وبعث الرسل وشَرع الشرائع فعلّمنا بذلك كلّه أحوال الأشياء ومنافعها ومضارّها ، وعواقب ذلك الظاهرةَ والخفيّةَ ، في الدنيا والآخرة ، فأكمل المنّة ، وأقام الحُجّة ، وقطع المعذرة ، فهدَى بذلك وحذّر إذ خلق العقول ووسائل المعارف ، ونمَّاها بالتفكيرات والإلهامات ، وخلق البواعث على التعليم والتعلّم ، فهذا الجزء أيضاً لله وحده . وأمّا الأسباب المقارنةُ للحوادث الحسنةِ والسيّئةِ والجانيةُ لِجناها حين تصيب الإنسان من الاهتداء إلى وسائل مصادفة المنافع ، والجهللِ بتلك الوسائل ، والإغضاء عن موانع الوقوع فيها في الخير والشرّ ، فذلك بمقدار ما يحصّله الإنسان من وسائل الرشاد ، وباختياره الصالحَ لاجتناءِ الخير ، ومقداراً ضدّ ذلك : من غلبة الجهل ، أو غلبة الهوى ، ومن الارتماء في المهالك بدون تبصّر ، وذلك جزء صغير في جانب الأجزاء التي قدّمناها ، وهذا الجزء جعل الله للإنسان حظّاً فيه ، ملَّكَهُ إيّاه ، فإذا جاءت الحسنةُ أحداً فإنّ مجيئها إيّاه بِخلْق الله تعالى لا محالة ممّا لا صنعة للعبد فيه ، أو بما أرشد الله به العبد حتّى علم طريق اجتناء الحسنة ، أي الشيءِ الملائم وخلق له استعداده لاختيار الصالح فيما له فيه اختيار من الأفعال النافعة حسبما أرشده الله تعالى ، فكانت المنّة فيها لله وحده ، إذ لولا لطفه وإرشاده وهديه ، لكان الإنسان في حيَرة ، فصحّ أنّ الحسنة من الله ، لأنّ أعظم الأسباب أو كلّها منه .
أمّا السيّئة فإنّها وإن كانت تأتي بتأثير الله تعالى ، ولكن إصابة معظمها الإنسانَ يأتي من جهله ، أو تفريطه ، أو سوء نظره في العواقب ، أو تغليب هواه على رشده ، وهنالك سيّئات الإنسان من غير تسبّبه مثل ما أصاب الأمم من خسْففٍ وأوبئة ، وذلك نادر بالنسبة لأكثر السيّئات ، على أنّ بعضاً منه كان جزاء على سوء فعل ، فلا جرَم كان الحظّ الأعظم في إصابة السيّئة الإنسان لتسبّبه مبَاشرة أو بواسطة ، فصحّ أن يسند تسبّبها إليه ، لأنّ الجزء الذي هو لله وحده منها هو الأقلّ . وقد فسَّر هذا المعنى ما ورد في «الصحيح» ، ففي حديث الترمذي " لا يصيب عبداً نكبةٌ فما فوقها أو ما دونها إلاّ بذنب وما يعفو الله أكثر " . وشملت الحسنة والسيِّئة ما كان من الأعيان ، كالمطر والصواعق ، والثمرة والجراد ، وما كان من الأعراض كالصحّة ، وهبوب الصّبا ، والربْح في التجارة . وأضدادها كالمرض ، والسَّموم المهلكة ، والخسارة . وفي هذا النوع كان سبب نزول هذه الآية ، ويلحق بذلك ما هو من أفعال العباد كالطاعات النافعة للطائع وغيره ، والمعاصي الضارّة به وبالناس ، وفي هذا الأمر جاء قوله تعالى : { قل إن ضللت فإنما أضِلّ على نفسي وإن اهتديت فيما يوحي إليّ ربي } [ سبأ : 50 ] وهو على نحو هذه الآية وإن لم تكن نازلة فيه .
ولكون هذه القضية دقيقة الفهم نبّة الله على قلّة فهمهم للمعاني الخفيّة بقوله : { فما لهؤلاء القوم لا يكادُون يفقهون حديثاً } ، فقوله : { لا يكادون } يجوز أن يكون جارياً على نظائره من اعتبار القلب ، أي يكادون لا يفقهون ، كما تقدّم عند قوله تعالى : { فذبحوها وما كادوا يفعلون } [ البقرة : 71 ] فيكون فيه استبقاءٌ عليهم في المذمّة . ويجوز أن يكون على أصل وضع التركيب ، أي لا يقارِبون فهم الحديث الذي لا يعقله إلاّ الفطناء ، فيكون أشدّ في المذمّة .
والفقه فهم ما يَحتاج إلى إعمال فكر . قال الراغب : «هو التوصّل إلى علم غائب بعلم شاهد ، وهو أخص من العلم» .
وعرفه غيره بأنّه «إدراك الأشياء الخفيّة» .
والخطاب في قوله : { ما أصابك } خطاب للرسول ، وهذا هو الأليق بتناسق الضمائر ، ثم يعلم أن غيره مثله في ذلك .
وقد شاع الاستدلال بهذه الآية على أنّ أفعال العباد مخلوقة لله تعالى على طريقة الشيخ أبي الحسن الأشعري لقوله : { قل كلّ من عند الله } ، كما شاع استدلال المعتزلة بها على أنّ الله لا يخلق المعصية والشرّ لقوله : { وما أصابك من سيّئة فمن نفسك } . وقال أبو الحسن شبيب بن حيدرة المالكي في كتاب «حَزّ الغلاصم» : إنّ الاحتجاج بها في كلا الأمرين جهل لابتنائه على توهّم أنّ الحسنة والسيّئة هي الطاعة والمعصية ، وليستا كذلك .
وأنا أقول : إنّ أهل السنّة ما استدلّوا بها إلاّ قَوْلاً بموجَب استدلال المعتزلة بها على التفرقة بين اكتساب الخير والشّر على أنّ عموم معنى الحسنة والسيئة كما بيَّنْته آنفاً يجعل الآية صالحة للاستدلال ، وهو استدلال تقريبي لأنّ أصول الدين لا يستدلّ فيها بالظواهر كالعموم .
وجيء في حكاية قولهم : { يقولوا هذه من عند الله يقولوا هذه من عندك } بكلمة ( عنِد ) للدلالة على قوّة نسبة الحسنة إلى الله ونسبة السيّئة للنبيء عليه الصلاة والسلام أي قالوا ما يُفيد جزمهم بذلك الانتساب .
ولمّا أمر الله رسوله أن يجيبهم قال : { قل كلّ من عند الله } مشاكلة لقولهم ، وإعراباً عن التقدير الأزلي عند الله .
وأمّا قوله : { ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيّئة فمن نفسك } فلم يؤت فيه بكلمة ( عند ) ، إيماء إلى أنّ ابتداء مجيء الحسنة من الله ومجيء السيِّئة من نفس المخاطب ، ابتداءُ المتسبّب لِسبب الفعل ، وليسَ ابتداءَ المؤثِّر في الأثر .
وقوله : { وأرسلناك للناس رسولاً } عطف على قوله : { وما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك } للردّ على قولهم : السيئة من عند محمد ، أي أنك بُعِثْتَ مُبَلِّغا شريعة وهاديا ، ولست مؤثراً في الحوادث ولا تدل مقارنة الحوادث المؤلمة على عدم صدق الرسالة . فمعنى { أرسلناك } بعثناك كقوله { وأرسلنا الرياح } [ الحجر : 22 ] ونحوه . و { للناس } متعلق ب { أرسلناك } . وقوله { رسولا } حال من { أرسلناك } ، والمراد بالرسول هنا معناه الشرعي المعروف عند أهل الأديان : وهو النبي المبلّغ عن الله تعالى ، فهو لفظ لقيي دالّ على هذا المعنى ، وليس المراد به اسم المفعول بالمعنى اللغوي ولهذا حسن مجيئهُ حالاً مقيَّدة ل«أرسلناك» ، لاختلاف المعنيين ، أي بعثناك مبلّغاً لا مُؤَثِّراً في الحوادث ، ولا أمارةً على وقوع الحوادث السيّئة . وبهذا يزول إشكال مجيء هذه الحال غير مفِيدة إلاّ التأكيد ، حتّى احتاجوا إلى جَعل المجرور متعلّقاً ب { رسولاً } ، وأنّه قدّم عليه دلالة على الحصر باعتبار العموم المستفاد من التعريف ، كما في «الكشّاف» ، أي لجميع الناس لا لبعضهم ، وهو تكلّف لا داعي إليه ، وليس المقام هذا الحصر .