تفسير ابن عاشور
تفسير الآية رقم 19 من سورة النساء
{ ياأيها الذين ءَامَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النسآء كَرْهاً } .
استئناف تشريع في أحكام النساء التي كان سياق السورة لبيانها وهي التي لم تزل آيها مبيّنة لأحكامها تأسيساً واستطراداً ، وبدءا وعودا ، وهذا حكم تابع لإبطال ما كان عليه أهل الجاهلية من جعل زوج الميّت موروثة عنه وافتتح بقوله : { يا أيها الذين آمنوا } للتنويه بما خوطبوا به .
وخوطب الذين آمنوا ليعمّ الخطاب جميع الأمّة ، فيأخذ كلّ منهم بحظّه منه ، فمريد الاختصاص بامرأة الميّت يعلم ما يختصّ به منه ، والوليّ كذلك ، وولاة الأمور كذلك .
وصيغة { لا يحل } صيغة نهي صريح لأنّ الحلّ هو الإباحة في لسان العرب ولسان الشريعة ، فنفيه يرادف معنى التحريم .
والإرث حقيقته مصير الكسب إلى شخص عقب شخص آخر ، وأكثر ما يستعمل في مصير الأموال ، ويطلق الإرث مجازاً على تمحّض الملك لأحد بعد المشارك فيه ، أو في حالة ادّعاء المشارك فيه ، ومنه «يرث الأرض ومَن عليها» ، وهو فعل متعدّ إلى واحد يتعدّى إلى المتاع الموروث ، فتقول : ورثت مال فلان ، وقد يتعدى إلى ذات الشخص الموروث ، يقال : ورث فلان أباه ، قال تعالى : { فهب لي من لدنك وليا يرثني } [ مريم : 6 ] وهذا هو الغالب فيه إذا تعدّى إلى ما ليس بمال .
فتعدية فعل { أن ترثوا } إلى { النساء } من استعماله الأوّل : بتنزيل النساء منزلة الأموال الموروثة ، لإفادة تبشيع الحالة التي كانوا عليها في الجاهلية . أخرج البخاري ، عن ابن عباس ، قال : «كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحقّ بامرأته إن شاء بعضهم تزوّجها ، وإن شاءوا زوّجوها ، وإن شاءوا لم يزوجوّها ، فهم أحقّ بها من أهلها فنزلت هذه الآية» وعن مجاهد ، والسدّي ، والزهري كان الابن الأكبر أحقّ بزوج أبيه إذا لم تكن أمّه ، فإن لم يكن أبناء فوليّ الميّت إذا سبق فألقى على امرأة الميّت ثوبه فهو أحقّ بها ، وإن سبقته فذهبت إلى أهلها كانت أحقّ بنفسها . وكان من أشهر ما وقع من ذلك في الجاهلية أنّه لمّا مات أمية بن عبد شمس وترك امرأته ولها أولاد منه : العيص ، وأبو العيص ، والعاص ، وأبو العاص ، وله أولاد من غيرها منهم أبو عمرو بن أمية فخلف أبو عمرو على امرأة أبيه ، فولدت له : مُسافراً ، وأبا معيط ، فكان الأعياص أعماماً لمسافر وأبي معيط وأخوتهما من الأمّ» .
وقد قيل : نزلت الآية لمّا توفّي أبو قيس بن الأسلت رام ابنه أن يتزوّج امرأته كبشة بنت معن الأنصارية ، فنزلت هذه الآية . قال ابن عطية : وكانت هذه السيرة لازمة في الأنصار ، وكانت في قريش مباحة مع التراضي . وعلى هذا التفسير يكون قوله { كرهاً } حالا من النساء ، أي كارهات غير راضيات ، حتّى يرضين بأن يكنّ أزواجاً لمن يرضينه ، مع مراعاة شروط النكاح ، والخطاب على هذا الوجه لورثة الميّت .
وقد تكرّر هذا الإكراه بعوائدهم التي تمالؤوا عليها ، بحيث لو رامت المرأة المحيد عنها ، لأصبحت سبّة لها ، ولما وجدت من ينصرها ، وعلى هذا فالمراد بالنساء الأزواج ، أي أزواج الأموات .
ويجوز أن يكون فعل ( ترثوا ) مستعملا في حقيقته ومتعدّيا إلى الموروث فيفيد النهي عن أحوال كانت في الجاهلية : منها أنّ الأولياء يعضلون النساء ذوات المال من التزوّج خشية أنّهنّ إذا تزوّجن يلدن فيرثهنّ أزواجهنّ وأولادهنّ ولم يكن للوليّ العاصب شيء من أموالهنّ ، وهنّ يرغبن أن يتزوّجن؛ ومنها أنّ الأزواج كانوا يكرهون أزواجهم ويأبَون أن يطلّقوهنّ رغبة في أن يمتن عندهم فيرثوهنّ ، فذلك إكراه لهنّ على البقاء على حالة الكراهية ، إذ لا ترضى المرأة بذلك مختارة ، وعلى هذا فالنساء مراد به جمع امرأة ، وقرأ الجمهور : كرها بفتح الكاف وقرأه حمزة ، والكسائي وخلف بضم الكاف وهما لغتان .
عطف النهي عن العضل على النهي عن إرث النساء كرها لمناسبة التماثل في الإكراه وفي أنّ متعلّقه سوء معاملة المرأة ، وفي أنّ العضل لأجل أخذ مال منهنّ .
والعضل : منع وليّ المرأة إيّاها أن تتزوّج ، وقد تقدّم الكلام عليه عند قوله تعالى : { فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن } في سورة البقرة [ 232 ]
فإن كان المنهي عنه في قوله : لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً } هو المعنى المتبادر من فعل ( ترثوا ) ، وهو أخذ مال المرأة كرها عليها ، فعطف { ولا تعضلوهن } إمّا عطف خاصّ على عامّ ، إن أريد خصوص منع الأزواج نساءهم من الطلاق مع الكراهية ، رغبة في بقاء المرأة عنده حتّى تموت فيرث منها مالها ، أو عطف مباين إن أريد النهي عن منعها من الطلاق حتّى يلجئها إلى الافتداء منه ببعض ما آتاها ، وأيّامّا كان فإطلاق العضل على هذا الإمساك مجاز باعتبار المشابهة لأنّها كالتي لا زوج لها ولم تتمكّن من التزوّج .
وإن كان المَنهي عنه في قوله : { لا يحل لكم أن ترثوا النساء } المعنى المجازي لترثوا وهو كون المرأة ميراثاً ، وهو ما كان يفعله أهل الجاهلية في معاملة أزواج أقاربهم وهو الأظهر فعطف { ولا تعضلوهن } عطف حكم آخر من أحوال المعاملة ، وهو النهي عن أن يعضل الوليّ المرأة من أن تتزوّج لتبقى عنده فإذا ماتت ورثها ، ويتعيّن على هذا الاحتمال أن يكون ضمير الجمع في قوله : { لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن } راجعاً إلى من يتوقّع منه ذلك من المؤمنين وهم الأزواج خاصّة ، وهذا ليس بعزيز أن يطلق ضمير صالح للجمع ويراد منه بعض ذلك الجمع بالقرينة ، كقوله : { ولا تقتلوا أنفسكم } [ النساء : 29 ] أي لا يقتل بعضكم أخاه ، إذ قد يعرف أنّ أحداً لا يقتل نفسه ، وكذلك { فسلموا على أنفسكم } [ النور : 61 ] أي يسلم الداخل على الجالس . فالمعنى : ليذهب بعضكم ببعض ما آتاهنّ بعضكم ، كأن يريد الوليّ أن يذهب في ميراثه ببعض مال مولاته الذي ورثته من أمّها أو قريبها أو من زوجها ، فيكون في الضمير توزيع .
وإطلاق العضل على هذا المعنى حقيقة . والذهاب في قوله : { لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن } مجاز في الأخذ ، كقوله : { ذهب الله بنورهم } [ البقرة : 17 ] ، أي أزاله .
ليس إتيانهنّ بفاحشة مبيّنة بعضاً ممّا قبل الاستثناء لا من العضل ولا من الإذهاب ببعض المهر . فيحتمل أن يكون الاستثناء متّصلا استثناءً من عموم أحوال الفعل الواقع في تعليل النهي ، وهو إرادة الإذهاب ببعض ما آتَوْهُنّ ، لأنّ عموم الأفراد يستلزم عموم الأحوال ، أي إلاّ حال الإتيان بفاحشة فيجوز إذهابكم ببعض ما آتيتموهنّ . ويحتمل أن يكون استثناء منقطعاً في معنى الاستدراك ، أي لكن إتيانهنّ بفاحشة يُحِلّ لكم أن تذهبوا ببعض ما آتيتموهنّ ، فقيل : هذا كان حكم الزوجة التي تأتي بفاحشة وأنّه نسخ بالحدّ . وهو قول عطاء .
والفاحشة هنا عند جمهور العلماء هي الزنا ، أي أنّ الرجل إذا تحقّق زنى زوجه فله أن يعضلها ، فإذا طلبت الطلاق فله أن لا يطلّقها حتّى تفتدي منه ببعض صداقها ، لأنّها تسبّبت في بَعْثَرة حال بيت الزوج ، وأحوجته إلى تجديد زوجة أخرى ، وذلك موكول لدينه وأمانة الإيمان . فإنْ حاد عن ذلك فللقضاة حمله على الحقّ . وإنّما لم يَجْعل المفاداةَ بجميع المهر لئلا تصير مدّةُ العصمة عريَّة عن عوض مقابل ، هذا ما يؤخذ من كلام الحَسن . وأبي قلابة ، وابن سيرين وعطاء؛ لكن قال عطاء : هذا الحكم نسخ بحدّ الزنا وباللعان ، فحرّم الإضرار والافتداء .
وقال ابن مسعود ، وابن عباس ، والضحّاك ، وقتادة : الفاحشة هنا البغض والنشوز ، فإذا نشزت جاز له أن يأخذ منها . قال ابن عطيّة : وظاهر قول مالك بإجازة أخذ الخلع عن الناشز يناسب هذا إلاّ أنيّ لا أحفظ لمالك نصّا في الفاحشة في هذه الآية .
وقرأ الجمهور : مبيِّنة بكسر التحتية اسم فاعل من بيَّن اللازم بمعنى تبيَّن ، كما في قولهم في المثل «بَيَّنَ الصبحُ لذي عَيْنَيْن» . وقرأه ابن كثير ، وأبو بكر عن عاصم ، وخلَف بفتح التحتية اسم مفعول من بيَّن المتعدي أي بيَّنها وأظْهَرَها بحيث أشْهَدَ عَليهنّ بها .
أعقب النهي عن إكراه النساء والإضرارِ بهنّ بالأمر بحسن المعاشرة معهنّ ، فهذا اعتراض فيه معنى التذييل لما تقدّم من النهي ، لأنّ حسن المعاشرة جامع لنفي الإضرار والإكراه ، وزائد بمعاني إحسان الصحبة .
والمعاشرة مفاعلة من العِشْرة وهي المخالطة ، قال ابن عطية : وأرى اللفظة من أعشار الجزور لأنّها مقاسمة ومخالطة ، أي فأصل الاشتقاق من الاسم الجامد وهو عدد العشرة . وأنَا أراها مشتقّة من العشِيرة أي الأهل ، فعاشَره جَعَلَه من عشيرته ، كما يقال : آخاه إذا جعله أخاً . أمّا العشيرة فلا يعرف أصل اشتقاقها . وقد قيل : إنها من العشرة أي اسم العدد وفيه نظر .
والمعروف ضدّ المنكر وسمّي الأمر المكروه منكراً لأنّ النفوس لا تأنس به ، فكأنّه مجهول عندها نَكِرة ، إذ الشأن أنّ المجهول يكون مكروهاً ثمّ أطلقوا اسم المنكر على المكروه ، وأطلقوا ضدّه على المحبوب لأنّه تألفه النفوس . والمعروف هنا ما حدّده الشرع ووصفه العرف .
والتفريع في قوله : { فإن كرهتموهن } على لازم الأمر الذي في قوله : { وعاشروهن } وهو النهي عن سوء المعاشرة ، أي فإن وجد سبب سوء المعاشرة وهو الكراهية . وجملة { فعسى أن تكرهوا } نائبه مناب جواب الشرط ، وهي عليه له فعلم الجواب منها . وتقديره : فتثبتوا ولا تعجلوا بالطلاق ، لأن قوله { فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً } يفيد إمكان أن تكون المرأة المكروهة سببَ خيرات فيقتضي أن لا يتعجّل في الفراق .
و { عَسَى } هنا للمقاربة المجازية أو الترجّي . و { أن تكرهوا } سادَ مسدّ معموليها ، { وَيَجْعَلَ } معطوف على { تكرهوا } ، ومناط المقاربةِ والرجاءِ هو مجموع المعطوف والمعطوف عليه ، بدلالة القرينة على ذلك .
وهذه حكمة عظيمة ، إذ قد تكره النفوس ما في عاقبته خير فبعضه يمكن التوصّل إلى معرفة ما فيه من الخير عند غوص الرأي . وبعضه قد علم الله أنّ فيه خيراً لكنّه لم يظهر للناس . قال سهل بن حنيف ، حين مرجعه من صفّين «اتَّهِموا الرأي فلقد رأيتُنا يَوم أبي جندل ولو نستطيع أن نردّ على رسول الله أمْره لردَدْنا . واللَّه ورسولُه أعلم» . وقد قال تعالى ، في سورة البقرة { وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم } [ البقرة : 216 ] .
والمقصود من هذا : الإرشادُ إلى إعماق النظر وتغلغل الرأي في عواقب الأشياء ، وعدم الاغترار بالبوارق الظاهرة . ولا بميل الشهوات إلى ما في الأفعال من ملائم ، حتّى يسبره بمسبار الرأي ، فيتحقّق سلامة حسن الظاهر من سُوء خفايا الباطن .
واقتصر هنا على مقاربة حصول الكراهية لشيء فيه خير كثير ، دون مقابلة ، كما في آية البقرة ( 216 ) { وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم } لأنّ المقام في سورة البقرة مقام بيان الحقيقة بطَرفيها إذ المخاطبون فيها كَرِهوا القتال ، وأحبّوا السلم ، فكان حالهم مقتضيا بيان أنّ القتال قد يكون هو الخير لما يحصل بعده من أمن دائم ، وخضد شوكة العدوّ ، وأنّ السلم قد تكون شرّا لما يحصل معها من استخفاف الأعداء بهم ، وطمعهم فيهم ، وذهاب عزّهم المفضي إلى استعبادهم ، أمّا المقام في هذه السورة فهو لبيان حكم من حدث بينه وبين زوجه ما كَرّهه فيها ، ورام فراقها ، وليس له مع ذلك ميل إلى غيرها ، فكان حاله مقتضياً بيان ما في كثير من المكروهات من الخيرات ، ولا يناسب أن يبيّن له أنّ في بعض الأمور المحبوبة شروراً لكونه فتحا لباب التعلّل لهم بما يأخذون من الطرف الذي يميل إليه هواهم . وأُسند جعل الخير في المكروه هُنا للَّه بقوله : ويجعل الله فيه خيراً كثيراً } المقتضى أنه جَعْل عارض لمكروه خاصّ ، وفي سورة البقرة ( 216 ) قَال : { وهو خير لكم } لأنّ تلك بيان لما يقارن بعض الحقائق من الخفاء في ذات الحقيقة ، ليكون رجاء الخير من القتال مطّردا في جميع الأحوال غير حاصل بجَعْل عارض ، بخلاف هذه الآية ، فإنّ الصبْر على الزوجة الموذية أو المكروهة إذا كان لأجل امتثال أمر الله بحسن معاشرتها ، يكون جعل الخير في ذلك جزاءً من الله على الامتثال .