تفسير ابن عاشور
تفسير الآية رقم 60 من سورة الزمر
وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60)
عطف على إحدى الجمل المتقدمة المتعلقة بعذاب المشركين في الدنيا والآخرة ، والأحسن أن يكون عطفاً على جملة { والذين ظلموا من هؤلاء سيصيبهم سيئات ما كسبوا } [ الزمر : 51 ] ، أي في الدنيا كما أصاب الذين من قبلهم ويوم القيامة تَسودّ وجوههم . فيجوز أن يكون اسوداد الوجوه حقيقة جعله الله علامة لهم وجعل بقية الناس بخلافهم . وقد جعل الله اسوداد الوجوه يوم القيامة علامة على سوء المصير كما جعل بياضها علامة على حسن المصير قال تعالى : { يوم تبيضُّ وجوه وتسودُّ وجوه فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة اللَّه هم فيها خالدون } في سورة آل عمران ( 106 ، 107 ) . ويجوز أن يكون ابيضاض الوجوه مستعملاً في النضرة والبهجة قال تعالى : { وجوه يومئذ ناضرة } [ القيامة : 22 ] ، وقال حسان بن ثابت
: ... بِيض الوجوه كريمةٌ أحسابهم
ويقولون في الذي يخصل خصلة يفتخر بها قومُه : بيَّضْتَ وجوهنا . والخطاب في قوله : { تَرَى } لغير معين .
وجملة { وجوههم مُسْوَدة } مبتدأٌ وخبر ، وموقع الجملة موقع الحال من { الذين كذبوا على الله } ، لأن الرؤية هنا بصرية لا ينصب فعلها مفعولين . ولا يلزم اقتران جملة الحال الاسمية بالواو .
و { الذين كذبوا على الله } : هم الذين نسبوا إليه ما هو منزه عنه من الشريك وغير ذلك من تكاذيب الشرك ، فالذين كذبوا على الله هم الذين ظلموا الذين ذُكروا في قوله : { والذين ظلموا من هؤلاء سيصيبهم سيئات ما كسبوا } [ الزمر : 51 ] ، وصفوا أولاً بالظلم ثم وصفوا بالكذب على الله في حكاية أخرى فليس قوله : { الذين كذبوا على الله } إظهاراً في مقام الإِضمار .
ويدخل في { الذين كذبوا على الله } كل من نسَب إلى الله صفة لا دليل له فيها ، ومن شرع شيئاً فزعم أن الله شرعه متعمداً قاصداً ترويجه للقبول بدون دليل ، فيدخل أهل الضلال الذين اختلقوا صفات لله أو نسبوا إليه تشريعاً ، ولا يدخل أهل الاجتهاد المُخطِئون في الأدلة سواء في الفروع بالاتفاق وفي الأصول على ما نختاره إذا استفرغوا الجهود . ونسبة شيءٍ إلى الله أمرها خطير ، ولذلك قال أيمتنا : إن الحكم المقيس غيرَ المنصوص يجوز أن يقال هُو دينُ الله ولا يجوز أن يقال : قاله الله .
ولذلك فجملة { أليس في جهنم مثوى للمتكبرين } واقعة موقع الاستئناف البياني لجملة { ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة } على كلا المعنيين لأن السامع يسأل عن سبب اسوداد الوجوه فيجاب بأن في جهنم مثواهم يعني لأن السواد يناسب ما سيلفح وجوههم من مسّ النار فأجيب بطريقة الاستفهام التقريري بتنزيل السائل المقدَّرِ منزلة من يعلم أن مثواهم جهنم فلا يليق به أن يغفل عن مناسبة سواد وجوههم ، لمصيرهم إلى النار ، فإن للدخائل عَنَاوينَها ، وهذا الاستفهام كما في قوله تعالى :
{ ليقولوا أهؤلاء من اللَّه عليهم من بيننا أليس اللَّه بأعلم بالشاكرين } [ الأنعام : 53 ] ، وكقول أبي مسعود الأنصاري للمغيرة بن شعبة حين كان أمير الكوفة وقد أخر الصلاة يوماً «ما هذا يا مغيرة أليس قد علمت أن جبريل نزل فصلّى فصلَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم . وكقول الحجاج في خطبته في أهل الكوفة «ألستم أصحابي بالأهواز حين رمتم الغدر» الخ .
والتكبر : شدة الكبر ، ومن أوصاف الله تعالى المتكبر ، والكِبر : إظهار المرء التعاظم على غيره لأنه يُعدّ نفسه عظيماً . وتعريف المتكبرين هنا للاستغراق ، وأصحاب التكبر مراتب أقواها الشرك ، قال تعالى : { إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين } [ غافر : 60 ] وهو المعني بقول النبي صلى الله عليه وسلم «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر ولا يدخل النار من كان في قلبه حبة خردل من إيمان» أخرجه مسلم عن ابن مسعود ، ألا ترى أنه قابله بالإِيمان ، ودونه مراتب كثيرة متفاوتة في قوة حقيقة ماهية التكبر ، وكلها مذمومة . وما يدور على الألسن : أن الكبر على أهل الكبر عبادة ، فليس بصحيح .
وفي وصفهم بالمتكبرين إيماء إلى أن عقابهم بتسويد وجوههم كان مناسباً لكبريائهم لأن المتكبر إذا كان سيّىء الوجه انكسرت كبرياؤه لأن الكبرياء تضعف بمقدار شعور صاحبها بمعرفة الناس نقائصه .