تفسير ابن عاشور
تفسير الآية رقم 2 من سورة فاطر
مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2)
هذا من بقية تصدير السورة ب { الحمد لله فاطر السماوات والأرض } [ فاطر : 1 ] ، وهو عطف على { فاطر السماوات والأرض } الخ . والتقدير : وفاتح الرحمة للناس وممسكها عنهم فلا يقدر أحد على إمساك ما فتحه ولا على فتح ما أمسكه .
و { ما } شرطية ، أي اسم فيه معنى الشرط . وأصلها اسم موصول ضُمِّن معنى الشرط . فانقلبت صلته إلى جملة شرطية وانقلبت جملة الخبر جواباً واقترنت بالفاء لذلك ، فأصل { ما } الشرطية هو الموصولة . ومحل { ما } الابتداء وجواب الشرط أغنى عن الخبر .
و { من رحمة } بيان لإِبهام { ما } والرابط محذوف لأنه ضمير منصوب .
والفتح : تمثيلية لإِعطاء الرحمة إذ هي من النفائس التي تشبه المدخرات المتنافس فيها فكانت حالة إعطاء الله الرحمة شبيهة بحالة فتح الخزائن للعطاء ، فأشير إلى هذا التمثيل بفعل الفتح ، وبيانُه بقوله : { من رحمة } قرينة الاستعارة التمثيلية .
والإِمساك حقيقته : أخذ الشيء باليد مع الشدّ عليه بها لئلا يسقط أو ينفلت ، وهو يتعدّى بنفسه ، أو هو هنا مجاز عن الحبس والمنع ولذلك قوبل به الفتح .
وأما قولهم : أمسك بكذا ، فالباء إمّا لتوكيد لصوق المفعول بفعله كقوله تعالى : { ولا تمسكوا بعصم الكوافر } [ الممتحنة : 10 ] ، وإمّا لتضمينه معنى الاعتصام كقوله تعالى : { فقد استمسك بالعروة الوثقى } [ لقمان : 22 ] .
وقد أوهم في «القاموس» و«اللسان» و«التاج» أنه لا يتعدى بنفسه .
فقوله هنا : { وما يمسك } حذف مفعوله لدلالة قوله : { ما يفتح الله للناس من رحمة } عليه . والتقدير : وما يمسكه من رحمة ، ولم يُذكر له بيان استغناءً ببيانه من فعل .
والإِرسال : ضد الإِمساك ، وتعدية الإِرسال باللام للتقوية لأن العامل هنا فرع في العمل .
و { من بعده } بمعنى : من دونه كقوله تعالى : { فمن يهديه من بعد الله } [ الجاثية : 23 ] { فبأي حديث بعد الله } [ الجاثية : 6 ] ، أي فلا مرسل له دون الله ، أي لا يقدر أحد على إبطال ما أراد الله من إعطاء أو منع والله يحكم لا معقب لحكمه . وتذكير الضمير في قوله : { فلا مرسل له } مراعاة للفظ { ما } لأنها لا بيان لها ، وتأنيثه في قوله : { فلا ممسك لها } لِمراعاة بيان { ما } في قوله : { من رحمة } لقربه .
وعطف { وهو العزيز الحكيم } تذييل رجّح فيه جانب الإِخبار فعطف ، وكان مقتضى الظاهر أن يكون مفصولاً لإِفادة أنه يفتح ويمسك لحكمة يعلمها ، وأنه لا يستطيع أحد نقضَ ما أبْرَمَه في فتح الرحمة وغيره من تصرفاته لأن الله عزيز لا يمكن لغيره أن يغلبه ، فأنّ نقض ما أبرم ضرب من الهوان والمذلّة . ولذلك كان من شعار صاحب السؤدد أنه يبرم وينقض قال الأعشى
: ... علقمَ ما أنت إلى عامر
الناقِض الأوتار والواتر ... وضمير { لها } وضمير { له } عائدان إلى { ما } من قوله : { ما يفتح الله للناس من رحمة } ، روعي في تأنيث أحد الضميرين معنى { ما } فإنه اسم صادق على { رحمة } وقد بُيّن بها ، وروعي في تذكير الضمير الآخر لفظ { ما } لأنه لفظ لا علامة تأنيث فيه . وهما اعتباران كثيران في مثله في فصيح الكلام ، فالمتكلم بالخيار بين أيّ الاعتبارين شاء . والجمع بينهما في هذه الآية تفنن . وأوثر بالتأنيث ضمير { ما } لأنها مبيّنة بلفظ مؤنث وهو { من رحمة } .