تفسير ابن عاشور
تفسير الآية رقم 50 من سورة آل عمران
عطف على بآية بناء على أنّ قوله : بآية ظرف مستقرّ في موضع الحال كما تقدم أو عطف على جملة جئتكموَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التوراة وَلاُِحِلَّ لَكُم بَعْضَ الذي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ } فيقدّر فعل جئتكم بعد واو العطف ، { ومصدّقاً } حال من ضمير المقدّر معه ، وليس عطفاً على قوله : { ورسولا } [ آل عمران : 49 ] لأنّ رسولاً من كلام الملائكة ، { ومصدقاً } من كلام عيسى بدليل قوله : { لما بين يدي } .
والمصدّق : المخبر بصِدق غيره ، وأدخلت اللام على المفعول للتقوية ، للدلالة على تصديققٍ مُثبت محقّق ، أي مصدّقاً تصديقاً لا يشوبُه شك ولا نِسبةٌ إلى خطأ . وجَعْل التصديق متعدياً إلى التوراة تَوْطئة لقوله : { ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم } .
ومعنى ما بين يديّ ما تقدم قبلي ، لأنّ المتقدّم السابق يمشي بين يدي الجائي فهو هنا تمثيل لحالة السبق ، وإن كان بينه وبين نزول التوراة أزمنة طويلة ، لأنّها لما اتّصل العمل بها إلى مَجيئه ، فكأنها لم تسبقه بزمن طويل . ويستعمل بين يديْ كذا فِي معنى المشاهَد الحاضر ، كما تقدم في قوله تعالى : { يعلم ما بين أيديهم في سورة البقرة .
وعَطْف قوله ولأحِلّ } على { رسولاً } وما بعده من الأحوال : لأنّ الحال تشبه العلة؛ إذ هي قيد لعاملها ، فإذا كان التقييد على معنى التعليل شابَه المفعولَ لأجله ، وشابَه الجرور بلام التعليل ، فصح أن يُعطف عليها مجرورٌ بلام التعليل . ويجوز أن يكون عطفاً على قوله : { بآية من ربكم } فيتعلّق بفعللِ جئتكم . وعقب به قوله : { مصدّقاً لما بين يديّ } تنبيهاً على أنّ النسخ لا ينافي التصديق؛ لأنّ النسخ إعلام بتغيُّر الحكم . وانحصرت شريعة عيسى في إحياء أحكام التوراة وما تركوه فيها وهو في هذا كغيره من أنبياء بني إسرائيل ، وفي تحليل بعض ما حرمه الله عليهم رعياً لحالهم في أزمنة مختلفة ، وبهذا كان رسولاً . قيل أحلّ لهم الشحوم ، ولحوم الإبل ، وبعض السمك ، وبعض الطير : الذي كان محرّماً من قبل ، وأحلّ لهم السبت ، ولم أقف على شيء من ذلك في الإنجيل . وظاهر هذا أنّه لم يحرّم عليهم ما حلّل لهم ، فما قيل : إنّه حرّم عليهم الطلاق فهو تقوُّل عليه وإنّما حذّرهم منه وبَيّن لهم سوء عواقبه ، وحرّم تزوج المرأة المطلّقة وينضم إلى ذلك ما لا تخلو منه دعوة : من تذكير ، ومواعظ ، وترغيبات .
وقوله : { وجئتكم بآية من ربكم } تأكيد لقوله الأولِ : { أنى قد جئتكم بآية من ربكم } [ آل عمران : 49 ] . وإنما عطف بالواو لأنه أريد أن يكون من جملة الأخبار المتقدّمة ويحصل التأكيد بمجرّد تقدم مضمونه ، فتكون لهذه الجملة اعتباران يجعلانها بمنزلة جملتين ، وليبنى عليه التفريع بقوله : { فاتقوا الله وأطيعون } .
وقرأ الجمهور قوله : { وأطيعون } بحذف ياء المتكلم في الوصل والوقف ، وقرأه يعقوب : بإثبات الياء فيهما .