تفسير ابن عاشور
تفسير الآية رقم 144 من سورة آل عمران
عطف الإنكار على الملام المتقدّم في قوله تعالى : { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة } [ آل عمران : 142 ] وقوله : { ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه } [ آل عمران : 143 ] وكُلّ هاته الجمل ترجع إلى العتاب والتقريع على أحوال كثيرة ، كانت سبب الهزيمة يوم أُحُد ، فيأخذ كُلّ من حضر الوقعة من هذا الملام بنصِيبه المناسب لما يعلمه من حاله ظاهراً كان أم باطناً .
والآية تشير إلى ما كان من المسلمين من الاضطراب حين أرجَف بموت الرّسول صلى الله عليه وسلم فقال المنافقون : لو كان نبيّاً ما قتل ، فارجعوا إلى دينكم القديم وإخوانكم من أهل مكَّة ونكلّم عبد الله بن أبَي يأخذ لنا أماناً من أبي سفيان ، فهمّوا بترك القتال والانضمام للمشركين ، وثبت فريق من المسلمين ، منهم : أنس بن النضر الأنصاري ، فقال : إن كان قُتل محمد فإنّ ربّ محمد حيّ لا يموت ، وما تصنعون بالحياة بعده ، فقاتلوا على ما قاتل عليه .
ومحمد اسم رسول الله محمد بن عبد الله بن عبد المطلب صلى الله عليه وسلم سمَّاه به جدّه عبد المطلب وقيل له : لِمَ سَمّيتَه محمّداً وليس من أسماء آبائك؟ فقال : رجوت أن يحمده النَّاس . وقد قيل : لم يسمّ أحد من العرب محمداً قبل رسول الله . ذكر السهيلي في «الروض» أنّه لم يُسمّ به من العرب قبل ولادة رسول الله إلاّ ثلاثة : محمد بن سفيان بن مجاشع ، جدّ جدّ الفرزدق ، ومحمد بن أحَيْحَةَ بن الجُلاَح الأوسي . ومحمد بن حمران مِن ربيعة .
وهذا الاسم منقول من اسم مفعول حَمَّده تحميداً إذا أكثر من حمده ، والرسول فَعول بمعنى مَفعول مثل قولهم : حَلُوب ورَكوب وجَزور .
ومعنى { خلت } مضت وانقرضت كقوله : { قد خلت من قبلكم سنن } [ آل عمران : 137 ] وقول امرىء القيس : ( مَن كان في العصر الخالي ) وقَصر محمداً على وصف الرسالة قَصْرَ موصوف على الصفة . قصراً إضافياً ، لردّ ما يخالف ذلك ردّ إنكار ، سواء كان قصر قلب أو قصر إفراد .
والظاهر أنّ جملة { قد خلت من قبله الرسل } صفة «لرسول» ، فتكون هي محطّ القصر : أي ما هو إلاّ رسول موصوف بخلوّ الرسل قبله أي انقراضهم . وهذا الكلام مسوق لردّ اعتقاد من يعتقد انتفاء خلوّ الرسللِ مِن قبله ، وهذا الاعتقاد وإن لم يكن حاصلاً لأحد من المخاطبين ، إلاّ أنَّهم لمّا صدر عنهم ما من شأنه أن يكون أثراً لهذا الاعتقاد ، وهو عزمهم على ترك نصرة الدّين والاستسلام للعدوّ كانوا أحرياء بأن ينزلوا منزلة من يعتقد انتفاء خلوّ الرسل مِن قبله ، حيث يجدون أتباعهم ثابتين على مللهم حتّى الآن فكان حال المخاطبين حال من يتوهّم التلازم بين بقاء الملّة وبقاء رسولها ، فيستدلّ بدوام الملّة على دوام رسولها ، فإذا هلك رسول ملّة ظنّوا انتهاء شرعه وإبطال اتّباعه .
فالقصر على هذا الوجه قصر قلب ، وهو قلب اعتقادهم لوازم ضدّ الصّفة المقصور عليها ، وهي خلوّ الرسل قبله ، وتلك اللوازم هي الوهَن والتردّد في الاستمرار على نشر دعوة الإسلام ، وبهذا يشعر كلام صاحب «الكشّاف» .
وجعَل السكاكي المقصور عليه هو وصف الرسالة فيكون محطّ القصر هو قوله : «رسول» دون قوله : { قد خلت من قبله الرسل } ويكون القصر قصرَ إفْراد بتنزيل المخاطبين منزلة من اعتقد وصفه بالرسالة مع التنزّه عن الهلاك ، حين رتَّبوا على ظنّ موته ظنوناً لا يفرضها إلاّ من يعتقد عصمته من الموت ، ويكون قوله : { قد خلت من قبله الرسل } على هذا الوجه استئنافاً لا صفة ، وهو بعيد ، لأنّ المخاطبين لم يصدر منهم ما يقتضي استبعاد خبر موته ، بل هم ظنّوه صدقاً .
وعلى كلا الوجهين فقد نُزّل المخاطبون منزلَة من يَجهل قصر الموصوف على هذه الصفة وينكره ، فلذلك خوطبوا بطريق النَّفي والاستثناء ، الَّذي كثر استعماله في خطاب من يجهل الحكم المقصورَ عليه وينكره دون طريق ، إنَّما كما بيّنه صاحب «المفتاح» .
وقوله : { أفإين مات أو قتل اتقلبتم على أعقابكم } عطف على قوله : { وما محمد إلا رسول } إلخ . . . والفاء لتعقيب مضمون الجملة المعطوف عليها بمضمون الجملة المعطوفة ، ولمَّا كان مضمون الجملة المعطوفة إنشاء الاستفهام الإنكاري على مضمونها ، وهو الشرط وجزاؤه ، لم يكن للتعقيب المفاد من فاء العطف معنى إلاّ ترتّب مضمون المعطوفة على المعطوف عليها ، ترتّب المسبّب على السبب ، فالفاء حينئذ للسببية ، وهمزة الاستفهام مقدّمة من تأخير ، كشأنها مع حروف العطف ، والمعنى ترتّب إنكار أن ينقبلوا على أعقابهم على تحقّق مضمون جملة القصر : لأنّه إذا تحقّق مضمون جملة القصر ، وهو قلب الاعتقاد أو إفرادُ أحد الاعتقادين ، تسبّب عليه أن يكون انقلابهم على الأعقاب على تقدير أن يموت أو يقتل أمراً منكراً جديراً بعدم الحصول ، فكيف يحصل منهم ، وهذا الحكم يؤكِّد ما اقتضته جملة القصر ، من التعريض بالإنكار عليهم في اعتقادهم خلاف مضمون جملة القصر ، فقد حصل الإنكار عليهم مرتين : إحداهما بالتَّعريض المستفاد ، من جملة القصر ، والأخرى بالتَّصريح الواقع في هاته الجملة .
وقال صاحب «الكشاف» : الهمزة لإنكار تسبّب الانقلاب على خلوّ الرسول ، وهو التسّبب المفاد من الفاء أي إنكار مجموع مدلول الفاء ومدلول مدخولها مثل إنكار الترتّب والمهلة في قوله تعالى : { أثم إذا ما وقع آمَنْتم به } [ يونس : 51 ] وقول النابغة
: ... أثُمّ تَعَذّراننِ إلَيّ منهَا
فإنّي قد سمِعْتُ وقد رأيتُ ... بأن أنكر عليهم جعلهم خلوّ الرسل قبله سبباً لارتدادهم عند العلم بموته . وعلى هذا فالهمزة غير مقدّمة من تأخير لأنَّها دخلت على فاء السَّببية . ويَرِد عليه أنَّه ليس علمهم بخلوّ الرسل من قبله مع بقاء أتباعهم متمسكين سبباً لانقلاب المخاطبين على أعقابهم ، وأجيب بأنّ المراد أنَّهم لمَّا علموا خلوّ الرسل من قبله مع بقاء مللهم ، ولم يَجْروا على موجَب علمهم ، فكأنَّهم جعلوا علمهم بذلك سبباً في تحصيل نقيض أثره ، على نحو ما يعرض من فساد الوضع في الاستدلال الجدلي ، وفي هذا الوجه تكلّف وتدقيق كثير .
وذهب جماعة إلى أنّ الفاء لِمجرّد التَّعقيب الذكري ، أو الاستئناف ، وأنَّه عطف إنكار تصريحي على إنكار تعريضي ، وهذا الوجه وإن كان سهلاً غير أنَّه يفيت خصوصية العطف بالفاء دون غيرها ، على أنّ شأن الفاء المفيدة للترتيب الذكري المحض أن يعطف بها الأوصاف نحو { والصافات صفا فالزاجرات زجراً } [ الصافات : 1 ، 2 ] أو أسماء الأماكن نحو قوله
: ... بَيْنَ الدّخول فحَوْمَل
فتُوضِحَ فالمقراة . . . إلخ ... والانقلاب : الرجوع إلى المكان ، يقال : انقلب إلى منزله ، وهو هنا مجاز في الرجوع إلى الحال الَّتي كانوا عليها ، أي حال الكفر . و { على } للاستعلاء المجازي لأنّ الرجوع في الأصل يكونُ مُسبَّباً على طريق . والأعقاب جمع عقب وهو مؤخّر الرّجل ، وفي الحديث « وَيْل للأعقاب من النَّار » والمراد منه جهة الأعقاب أي الوراء .
وقوله : { ومن ينقلب على عاقبيه فلن يضر الله شيئاً } أي شيئاً من الضر ، ولو قليلاً ، لأنّ الارتداد عن الدّين إبطال لما فيه صلاح النَّاس ، فالمرتدّ يضرّ بنفسه وبالنَّاس ، ولا يضرّ الله شيئاً ، ولكن الشاكر الثَّابت على الإيمان يجازي بالشكر لأنَّه سعى في صلاح نفسه وصلاح النَّاس ، والله يحبّ الصلاح ولا يحبّ الفساد .
والمقصود من الآية العتاب على ما وقع من الاضطراب ، والثناءُ على الَّذين ثبتوا ووعظوا النَّاس ، والتحذيرُ من وقوع الارتداد عند موت الرسول عليه السَّلام ، وقد وقع ما حذّرهم الله منه بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم إذا ارتد كثير من المسلمين ، وظنّوا اتِّباعَ الرسول مقصوراً على حياته ، ثُمّ هداهم الله بعد ذلك ، فالآية فيها إنباء بالمستقبل .