تفسير ابن عاشور
تفسير الآية رقم 78 من سورة النمل
إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78)
لما سبق ذكر المشركين بطعنهم في القرآن وتكذيبهم بوعيده ، وذكر بني إسرائيل بما يقتضي طعنهم فيه بأنه لمخالفة ما في كتبهم ، وذكر المؤمنين بأنهم اهتدوا به وكان لهم رحمة فهم موقنون بما فيه ، تمخض الكلام عن خلاصة هي افتراق الناس في القرآن فريقين : فريق طاعن ، وفريق موقن ، فلا جرم اقتضى ذلك حدوث تدافع بين الفريقين . وهو مما يثير في نفوس المؤمنين سؤالاً عن مدى هذا التدافع ، والتخالف بين الفريقين ومتى ينكشف الحق ، فجاء قوله { إن ربك يقضي بينهم بحكمه } استئنافاً بيانياً فيعلم أن القضاء يقتضي مختلفين . وأن كلمة ( بين ) تقتضي متعدداً ، فأفاد أن الله يقضي بين المؤمنين بالقرآن والطاعنين فيه قضاء يبين المحق من المبطل . وهذا تسلية للنبيء صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين عن استبطائهم النصر فإن النبي أول المؤمنين ، وإنما تقلد المؤمنون ما أنبأهم به فالقضاء للمؤمنين قضاء له بادىء ذي بدء .
وفيه توجيه الخطاب إلى جناب الرسول صلى الله عليه وسلم وإسناد القضاء إلى الله في شأنه بعنوان أنه رب له إيماء بأن القضاء سيكون مرضياً له وللمؤمنين . فجعل الرسول في هذا الكلام بمقام المبلغ وجعل القضاء بين أمته مؤمنهم وكافرهم ، وتعجيل لمسرة الرسول بهذا اللإيماء .
وإذا قد أسند القضاء إلى الله وعلق به حكم مضاف إلى ضميره فقد تعين أن يكون المراد من المتعلق غير المتعلق به وذلك يلجيء : إما إلى تأويل معنى إضافة الحكم بما يخالف معنى إسناد القضاء إذا اعتبر اللفظان مترادين لفظاً ومعنى ، فيكون ما تدل عليه الإضافة من اختصاص المضاف بالمضاف إليه مقصوداً به ما اشتهر به المضاف باعتبار المضاف إليه . وذلك أن الكل يعلمون أن حكم الله هو العدل ولأن المضاف إليه هو الحكم العدل . فالمعنى على هذا : أن ربك يقضي بينهم بحكمه المعروف المشتهر اللائق بعموم علمه واطراد عدله .
وإما أن يؤول الحكم بمعنى الحكمة وهو إطلاق شائع قال تعالى { وكلاً ءاتينا حكماً وعلماً } [ الأنبياء : 79 ] وقال { وءاتيناه الحكم صبياً } [ مريم : 12 ] ولم يكن يحيى حاكماً وإنما كان حكيماً نبيئاً فيكون المعنى على هذا : إن ربك يقضي بينهم بحكمته ، أي بما تقتضيه الحكمة ، أي من نصر المحق على المبطل .
ومآل التأويلين إلى معنى واحد وبه يظهر حسن موقع الاسمين الجليلين في تذييله بقوله { وهو العزيز العليم } ، فإن العزيز لا يصانع ، والعليم لا يفوته الحق ، ويظهر حسن موقع التفريغ بقوله :