تفسير ابن عاشور
تفسير الآية رقم 223 من سورة الشعراء
يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (223)
و { يُلقون السمع } صفة ل { كلِّ أفاك أثيم } ، أي يظهرون أنهم يُلقون أسماعهم عند مشاهدة كواكب لتتنزل عليهم شياطينهم بالخبر ، وذلك من إفكهم وإثمهم .
وإلقاء السمع : هو شدة الإصغاء حتى كأنه إلقاءٌ للسمع من موضعه ، شبه توجيه حاسة السمع إلى المسموع الخفي بإلقاء الحجر من اليد إلى الأرض أو في الهواء قال تعالى : { أو ألقَى السمع وهو شهيد } [ ق : 37 ] ، أي أبلغ في الإصغاء لِيَعِيَ ما يُقال له .
وهذا كما أطلق عليه إصغاء ، أي إمالة السمع إلى المسموع .
وقوله : { وأكثرهم كاذبون } أي أكثر هؤلاء الأفاكين كاذبون فيما يزعمون أنهم تلقوه من الشياطين وهم لم يتلقوا منها شيئاً ، أي وبعضهم يتلقى شيئاً قليلاً من الشياطين فيكذب عليه أضعافه .
ففي الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئل عن الكهان فقال : « ليسوُا بشيء » قيل : يا رسول الله فإنهم يحدثون أحياناً بالشيء يكون حقاً . فقال : « تلك الكلمة من الحق يخطفها الجِنيّ فَيَقَرُّها في أذُن وليه قَرَّ الدَّجاجة فيخلطون عليها أكثر من مائة كذبة » فهم أفّاكون وهم متفاوتون في الكذب فمنهم أفاكون فيما يزيدونه على خبر الجن ، ومنهم أفّاكون في أصل تلقي شيء من الجن ، ولما كان حال الكهان قد يلتبس على ضعفاء العقول ببعض أحوال النبوءة في الإخبار عن غيب ، وأسجاعهم قد تلتبس بآيات القرآن في بادىء النظر . أطنَبت الآية في بيان ماهية الكهانة وبينت أن قصاراها الإخبارُ عن أشياء قليلة قد تصدق فأينَ هذا من هدي النبي والقرآن وما فيه من الآداب والإرشاد والتعليم والبلاغة والفصاحة والصراحة والإعجاز ولا تصدي منه للإخبار بالمغيبات . كما قال : { ولا أعلم الغيب } [ الأنعام : 50 ] في آيات كثيرة من هذا المعنى .