تفسير ابن عاشور
تفسير الآية رقم 2 من سورة المؤمنون
الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2)
إجراء الصفات على { المؤمنون } [ المؤمنون : 1 ] بالتعريف بطريق الموصول وبتكريره للإيماء إلى وجه فلاحهم وعلتِهِ ، أي أن كل خصلة من هاته الخصال هي من أسباب فلاحهم . وهذا يقتضي أن كل خصلة من هذه الخصال سبب للفلاح لأنه لم يقصد أن سبب فلاحهم مجموع الخصال المعدودة هنا فإن الفلاح لا يتم إلاّ بخصال أخرى مما هو مرجع التقوى ، ولكن لما كانت كل خصلة من هذه الخصال تنبىء عن رسوخ الإيمان من صاحبها اعتبرت لذلك سبباً للفلاح ، كما كانت أضدادها كذلك في قوله تعالى { مَا سَلَكَكُمْ فَي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ المُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِم المسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الخَائِضِين وَكُنَّا نُكَذّبُ بِيَوْممِ الدّينِ } [ المدثر : 42 46 ] على أن ذكر عدة أشياء لا يقتضي الاقتصار عليها في الغرض المذكور .
والخشوع تقدم في قوله تعالى : { وإنَّها لَكَبِيرَةٌ إلاّ عَلَى الخَاشِعِينَ } في سورة البقرة ( 45 ) وفي قوله : { وكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ } في سورة الأنبياء ( 90 ) . وهو خوف يوجب تعظيم المخوف منه ، ولا شك أن الخشوع ، أي الخشوع لله ، يقتضي التقوى فهو سبب فلاح .
وتقييده هنا بكونه في الصلاة لقصد الجمع بين وصفهم بأداء الصلاة وبالخشوع وخاصة إذا كان في حال الصلاة لأنّ الخشوع لله يكون في حالة الصلاة وفي غيرها ، إذ الخشوع محلّهُ القلب فليس من أفعال الصلاة ولكنه يتلبس به المصلي في حالة صلاته . وذكر مع الصلاة لأن الصلاة أولى الحالات بإثارة الخشوع وقوّته ولذلك قدمت ، ولأنه بالصلاة أعلق فإن الصلاة خشوع لله تعالى وخضوع له ، ولأن الخشوع لما كان لله تعالى كان أولى الأحوال به حال الصلاة لأن المصلي يناجي ربه فيشعر نفسه أنه بين يدي ربه فيخشع له . وهذا من آداب المعاملة مع الخالق تعالى وهي رأس الآداب الشرعية ومصدر الخيرات كلها .
ولهذا الاعتبار قدم هذا الوصف على بقية أوصاف المؤمنين وجعل موالياً للإيمان فقد حصل الثناء عليهم بوصفين .
وتقديمُ في صلاتهم } على { خاشعون } للاهتمام بالصلاة للإيذان بأن لهم تعلقاً شديداً بالصلاة لأن شأن الإضافة أن تفيد شدة الاتصال بين المضاف والمضاف إليه لأنها على معنى لاَم الاختصاص . فلو قيل : الذين إذا صلوا خشعوا ، فات هذا المعنى ، وأيضاً لم يتأت وصفهم بكونهم خاشعين إلاّ بواسطة كلمة أخرى نحو : كانوا خاشعين . وإلاّ يفتْ ما تدل عليه الجملة الاسميّة من ثبات الخشوع لهم ودوَامِهِ ، أي كون الخشوع خُلقاً لهم بخلاف نحو : الذين خشعوا ، فحصل الإيجاز ، ولم يفت الإعجاز .